صفحة جزء
آ . (45) قوله تعالى : إذ قالت الملائكة : في هذا الظرف أوجه ، أحدها : أن يكون منصوبا بيختصمون . الثاني : أنه بدل من " إذ يختصمون " وهو قول الزجاج . وفي هذين الوجهين بعد ، من حيث إنه يلزم اتحاد زمان الاختصام وزمان قول الكلام ، ولم يكن ذلك لأن وقت الاختصام كان صغيرا جدا ووقت قول الملائكة بعد ذلك بأحيان . وقد استشعر الزمخشري هذا السؤال فأجاب بأن الاختصام والبشارة وقعا في زمان واسع كما تقول : "لقيته سنة كذا " يعني أن اللقاء إنما يقع في بعض السنة فكذا هذا . الثالث : أن يكون بدلا من " إذ قالت الملائكة " أولا ، وبه بدأ الزمخشري كالمختار له ، وفيه بعد لكثرة الفاصل بين البدل والمبدل منه . الرابع : نصبه بإضمار فعل .

والوحي : الإشارة السريعة ، ولتضمن السرعة قيل : "أمر وحي " [ ص: 173 ] وقيل : هو إلقاء معنى الكلام إلى من يريد إعلامه ، والوحي يكون بالرمز والإشارة قال :


1280 - لأوحت إلينا والأنامل رسلها ... ... ... ...



وقوله تعالى : فأوحى إليهم أن سبحوا أي : أشار إليهم ، ويكون بالكتابة ، قال زهير :


1281 - أتى العجم والآفاق منه قصائد     بقين بقاء الوحي في الحجر الأصم



ويطلق الوحي على الشيء المكتوب ، قال :


1282 - فمدافع الريان عري رسمها     خلقا كما ضمن الوحي سلامها



قيل : الوحي جمع : وحي كفلس وفلوس ، وكسرت الحاء إتباعا . والوحي : الإلهام : وأوحى ربك إلى النحل ، والوحي للرسل يكون بأنواع مذكورة في التفسير .

قوله : بكلمة منه في محل جر صفة لكلمة ، والمراد بالكلمة هنا عيسى ، وسمي كلمة لوجوده بها وهو قوله : كن فيكون فهو من باب إطلاق السبب على المسبب . و " اسمه " مبتدأ ، و " المسيح " خبره . و " عيسى " بدل منه أو عطف بيان . قال أبو البقاء : "ولا يكون خبرا ثانيا لأن تعدد الأخبار يوجب [ ص: 174 ] تعدد المبتدأ ، والمبتدأ هنا مفرد ، وهو قوله : " اسمه "ولو كان " عيسى " خبرا آخر لكان أسماؤه أو أسماؤها على تأنيث الكلمة " قلت : هذا على رأي ، وأما من يجيز ذلك فقد أعرب " عيسى " خبرا ثانيا ، وأعربه بعضهم خبر مبتدأ محذوف أي : هو عيسى ، فهذه ثلاثة أوجه في " عيسى " ، ويجوز على الوجه الثالث وجه رابع وهو النصب بإضمار "أعني " لأن كل ما جاز قطعه رفعا جاز قطعه نصبا .

والألف واللام في " المسيح " للغلبة كهي في الصعق والعيوق وفيه وجهان ، أحدهما : أنه فعيل بمعنى فاعل محول منه مبالغة ، فقيل : لأنه مسح الأرض بالسياحة ، وقيل : لأنه يمسح ذا العاهة فيبرأ ، وقيل : بمعنى مفعول لأنه مسح بالبركة أو لأنه مسيح القدم ، قال :


1283 - بات يقاسيها غلام كالزلم     خدلج الساقين ممسوح القدم



أو لمسح وجهه بالملاحة ، قال :


1284 - على وجه مي مسحة من ملاحة      ... ... ... ...



والثاني : أن وزنه مفعل من السياحة وعلى هذا كله فهو منقول من الصفة . وقال أبو عبيد : أصله بالعبرانية : "مسيخا " فغير ، قال الشيخ : [ ص: 175 ] " فعلى هذا يكون اسما مرتجلا ليس مشتقا من المسح ولا من السياحة " قلت : قوله "ليس مشتقا " صحيح ، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون مرتجلا ولا بد ، لاحتمال أن يكون في لغتهم منقولا من شيء عندهم .

وأتى بالضمير في قوله : " اسمه " مذكرا وإن كان عائدا على الكلمة مراعاة للمعنى ، إذ المراد بها مذكر .

و " ابن مريم " يجوز أن يكون صفة لعيسى ، قال ابن عطية : " وعيسى خبر مبتدأ محذوف ، ويدعو إلى هذا كون قوله " ابن مريم " صفة لعيسى ، إذ قد أجمع الناس على كتبه دون ألف ، وأما على البدل أو عطف البيان فلا يجوز أن يكون " ابن مريم "صفة لعيسى ، لأن الاسم هنا لم يرد به الشخص . هذه النزعة لأبي علي ، وفي صدر الكلام نظر " انتهى . قلت : فقد حتم كونه صفة لأجل كتبه بدون ألف ، ثم قال : "وأما على البدل أو عطف البيان فلا يكون ابن مريم صفة لعيسى " يعني بدل عيسى من المسيح ، فجعله غير صفة له مع وجود الدليل الذي ذكره وهو كتبه بغير ألف .

وقد منع أبو البقاء أن يكون "ابن مريم " بدلا أو صفة لعيسى قال : "لأن ابن مريم ليس باسم ، ألا ترى أنك لا تقول : " هذا الرجل ابن عمرو "إلا إذا كان قد علق عليه علما " قلت : وهذا التعليل الذي ذكره إنما ينهض في عدم كونه بدلا ، وأما كونه صفة فلا يمنع ذلك ، بل إذا كان اسما امتنع كونه صفة ، إذ يصير في حكم الأعلام ، والأعلام لا توصف به ، ألا ترى أنك إذا سميت رجلا بابن عمرو امتنع أن يقع "ابن عمرو " صفة والحالة هذه .

وقال الزمخشري : "فإن قلت : لم قيل : اسمه المسيح عيسى ابن [ ص: 176 ] مريم ، وهذه ثلاثة أشياء : الاسم منها عيسى ، وأما المسيح والابن فلقب وصفة ؟ قلت : الاسم للمسمى علامة يعرف بها ويتميز من غيره ، فكأنه قيل : الذي يعرف ويتميز ممن سواه بمجموع هذه الثلاثة " انتهى فظهر من كلامه أن مجموع الألفاظ الثلاثة إخبار عن اسمه ، بمعنى أن كلا منها ليس مستقلا بالخبرية بل هو من باب : هذا حلو حامض ، وهذا أعسر يسر ونظيره قول الشاعر :


1285 - كيف أصبحت كيف أمسيت مما     يزرع الود في فؤاد الكريم



أي : مجموع كيف أصبحت ، وكيف أمسيت ، فكما جاز تعدد المبتدأ لفظا من غير عاطف والمعنى على المجموع فكذلك في الخبر ، وقد أنشدت عليه أبياتا كقوله :


1286 - ... ... ... ... فهذا بتي     مقيظ مصيف مشتي



وقد زعم بعضهم أن "المسيح " ليس باسم لقب له بل هو صفة كالضارب والظريف ، قال : "وعلى هذا ففي الكلام تقديم وتأخير ، إذ المسيح صفة لعيسى والتقدير : اسمه عيسى المسيح " . وهذا لا يجوز ، أعني تقديم الصفة على الموصوف ، لكنه يعني هو صفة له في الأصل ، والعرب إذا قدمت ما هو صفة في الأصل جعلوه مبنيا على العامل قبله وجعلوا الموصوف بدلا من صفته في الأصل نحو قوله :

[ ص: 177 ]

1287 - وبالطويل العمر     عمرا حيدرا



الأصل : وبالعمر الطويل ، هذا في المعارف ، وأما في النكرات فينصبون الصفة حالا .

وقال الشيخ : "ولا يصح أن يكون " المسيح "في هذا التركيب صفة لأن المخبر به على هذا لفظ ، والمسيح من صفة المدلول لا من صفة الدال ، إذ لفظ عيسى ليس المسيح ، ومن قال : إنهما اسمان قال : فقدم المسيح على عيسى لشهرته . قال ابن الأنباري : " وإنما قدم - بدئ بلقبه - لأن المسيح أشهر من عيسى لأنه قل أن يقع على سمي يشتبه به ، وعيسى قد يقع على عدد كثير فقدمه لشهرته ، ألا ترى أن ألقاب الخلفاء أشهر من أسمائهم " ، فهذا يدل على أن المسيح عند ابن الأنباري [لقب ] لا اسم . وقال أبو إسحاق : " وعيسى معرب من أيسوع وإن جعلته عربيا لم تصرفه في معرفة ولا نكرة ، لأن فيه ألف التأنيث ، ويكون مشتقا من عاسه يعوسه إذا ساسه ، وقام عليه " ، وقال الزمخشري : " ومشتقهما - يعني المسيح وعيسى - من المسح والعيس كالراقم على الماء " . وقد تقدم الكلام على عيسى ومريم واشتقاقهما وما ذكر الناس في ذلك في سورة البقرة فأغنى عن إعادته .

قوله : وجيها حال وكذلك قوله : ومن المقربين وقوله :

التالي السابق


الخدمات العلمية