صفحة جزء
آ . (50) قوله تعالى : ومصدقا : نسق على محل "بآية " ؛ لأن "بآية " في محل نصب على الحال إذ التقدير : وجئتكم ملتبسا بآية ومصدقا . وقال الفراء والزجاج : "نصب مصدقا على الحال ، المعنى : وجئتكم مصدقا لما بين يدي ، وجاز إضمار " جئتكم "لدلالة أول الكلام عليه ، وهو قوله : أني قد جئتكم بآية من ربكم ، ومثله في الكلام : " جئته بما يحب ومكرما له " . قال الفراء : " ولا يجوز أن يكون "ومصدقا " معطوفا على "وجيها " لأنه لو كان ذلك لقال : "ومصدقا لما بين يديه " يعني أنه لو كان معطوفا عليه لأتى معه بضمير الغيبة لا بضمير التكلم ، وكذلك ذكر غير الفراء ، ومنع أيضا أن يكون منسوقا على "رسولا " قال : "لأنه لو كان مردودا عليه لقال : " ومصدقا لما بين يديك "لأنه خاطب بذلك مريم ، أو قال : بين يديه " يعني أنه لو كان معطوفا على "رسولا " لكان ينبغي أن يؤتى بضمير الخطاب مراعاة لمريم أو بضمير [ ص: 202 ] الغيبة مراعاة للاسم الظاهر . قال الشيخ : "وقد ذكرنا أنه يجوز في " ورسولا "أن يكون منصوبا بإضمار فعل أي : وأرسلت رسولا " فعلى هذا التقدير يكون "مصدقا " معطوفا على "رسولا " .

قوله : من التوراة فيه وجهان ، أحدهما : أنه حال من "ما " الموصولة أي : الذين بين يدي حال كونه من التوراة ، فالعامل فيه "مصدقا " لأنه عامل في صاحب الحال ، والثاني : أنه حال من الضمير المستتر في الظرف الواقع صلة ، والعامل فيه الاستقرار المضمر في الظرف أو نفس الظرف لقيامه مقام الفعل .

قوله : ولأحل فيه أوجه أحدها : أنه معطوف على معنى "مصدقا " إذ المعنى : جئتكم لأصدق ما بين يدي ولأحل لكم ، ومثله من الكلام : "جئته معتذرا إليه ولأجتلب رضاه ، أي : جئت لأعتذر ولأجتلب ، كذا قال الواحدي وفيه نظر ، لأن المعطوف عليه حال ، وهذا تعليل . قال الشيخ بعد أن ذكر هذا الوجه : " وهذا هو العطف على التوهم وليس هذا منه ، لأن معقولية الحال مخالفة لمعقولية التعليل ، والعطف على التوهم لا بد أن يكون المعنى متحدا في المعطوف والمعطوف عليه ، ألا ترى إلى قوله : فأصدق وأكن كيف اتحد المعنى من حيث الصلاحية لجواب التخضيض ، وكذلك قوله :


1303 - تقي نقي لم يكثر غنيمة بنهكة ذي قربى ولا بحقلد



[ ص: 203 ] كيف اتحد معنى النفي في قوله : "لم يكثر " وفي قوله : "ولا بحقلد " أي : ليس بمكثر ولا بحقلد ، وكذلك ما جاء منه " . قلت : ويمكن أن يريد هذا القائل أنه معطوف على معنى "مصدقا " أي : بسبب دلالته على علة محذوفة هي موافقة له في اللفظ فنسب العطف على معناه باعتبار دلالته على العلة المحذوفة لأنها تشاركه في أصل معناه ، أعني مدلول المادة وإن كانت دلالة الحال غير دلالة العلة .

الثاني : أنه معطوف على علة مقدرة أي : جئتكم بآية لأوسع عليكم ولأحل ، أو لأخفف عنكم ولأحل ونحو ذلك .

الثالث : أنه معمول لفعل مضمر لدلالة ما تقدم عليه أي : وجئتكم لأحل ، فحذف العامل بعد الواو .

الرابع : أنه متعلق بقوله : وأطيعون والمعنى : اتبعوني لأحل لكم ، وهذا بعيد جدا أو ممتنع .

الخامس : أن يكون "ولأحل " ردا على قوله : "بآية " ، قال الزمخشري : "ولأحل " رد على قوله : بآية من ربكم أي "جئتكم بآية من ربكم ولأحل " . قال الشيخ : "ولا يستقيم أن يكون " ولأحل لكم "ردا على " بآية " ؛ لأن " بآية "في موضع حال ، و " لأحل "تعليل ولا يصح عطف التعليل على الحال ؛ لأن العطف بالحرف المشرك في الحكم يوجب التشريك في جنس المعطوف عليه ، فإن عطفت على مصدر أو مفعول به أو ظرف أو حال أو تعليل أو غير ذلك شاركه في ذلك المعطوف " قلت : ويحتمل أن يكون جوابه ما تقدم من أنه أراد ردا على "بآية " من حيث دلالتها على عامل مقدر .

[ ص: 204 ] قوله : بعض الذي حرم المراد ببعض مدلوله الأصلي ، وقال أبو عبيدة "إنها هنا بمعنى " كل "مستدلا بقول لبيد :


1304 - تراك أمكنة إذا لم أرضها     أو يرتبط بعض النفوس حمامها



وقد رد الناس عليه بأنه كان يلزم أن يحل لهم الربا والسرقة والقتل لأنها كانت محرمة عليهم ، فلو كان المعنى : ولأحل لكم كل الذي حرم عليكم لأحل لهم ذلك كله . واستدل بعضهم على أن " بعضا "بمعنى " كل "بقول الآخر :


1305 - أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا     حنانيك بعض الشر أهون من بعض



أي : أهون من كل الشر ، واستدل آخرون بقول الآخر :


1306 - إن الأمور إذا الأحداث دبرها     دون الشيوخ ترى في بعضها خللا



أي : في كلها خللا ، ولا حاجة إلى إخراج اللفظ عن مدلوله مع إمكان صحة معناه ، إذ مراد لبيد ببعض النفوس نفسه هو ، والتبعيض في البيتين الآخرين واضح فإن الشر بعضه أهون من بعض آخر لا من كله ، وكذلك ليس كل أمر دبره الأحداث كان فيه خلل ، بل قد يأتي تدبيره أحسن من تدبير الشيخ .

[ ص: 205 ] وقرأ العامة : " حرم "مبنيا للمفعول والفاعل هو الله تعالى . وقرأ عكرمة : " حرم "مبنيا للفاعل وهو الله تعالى أو الموصول في قوله : لما بين يدي لأنه كتاب منزل ، أو موسى لأنه هو صاحب التوراة ، فأضمر للدلالة عليه بذكر كتابه . وقرأ إبراهيم النخعي : "حرم " بوزن شرف وظرف ، نسب الفعل إليه مجازا للعلم أن المحرم هو الله تعالى .

قوله : وجئتكم هذه الجملة يحتمل أن تكون تأكيدا للأولى لتقدم معناها ولفظها قبل ذلك . قال أبو البقاء : "هذا تكرير للتوكيد لأنه سبق هذا المعنى في الآية التي قبلها " ويحتمل أن تكون للتأسيس لاختلاف متعلقها ومتعلق ما قبلها . قال الشيخ : " وجئتكم بآية من ربكم للتأسيس لا للتوكيد لقوله : " قد جئتكم " ، وتكون هذه الآية قوله : إن الله ربي وربكم فاعبدوه لأن هذا القول شاهد على صحة رسالته ؛ إذ جميع الرسل كانوا عليه لم يختلفوا فيه ، وجعل هذا القول آية وعلامة لأنه رسول كسائر الرسل حيث هداه للنظر في أدلة العقل والاستدلال ، قاله الزمخشري .

التالي السابق


الخدمات العلمية