صفحة جزء
آ . (56) قوله تعالى : فأما الذين كفروا : في محل هذا الموصول قولان ، أظهرهما : أنه مرفوع على الابتداء ، والخبر الفاء وما في حيزها ، والثاني : أنه منصوب بفعل مقدر ، على أن المسألة من باب الاشتغال ، إذ الفعل بعده قد عمل في ضميره ، وهذا وجه ضعيف ، لأن "أما " لا يليها إلا المبتدأ ، وإذا لم يلها إلا المبتدأ امتنع حمل الاسم بعدها على إضمار فعل . ومن جوز ذلك تمحل بأنه يضمر الفعل متأخرا عن الاسم ، ولا يضمره قبله ، قال : لئلا يلي "أما " فعل وهي لا يليها الأفعال البتة فيقدر في قولك : "أما زيدا فضربته " : أما زيدا ضربت فضربته ، وكذا هنا يقدر : فأما الذين كفروا أعذب فأعذبهم ، فيقدر العامل بعد الصلة ، ولا يقدره قبل الموصول لما ذكرت ، وهذا ينبغي ألا يجوز لعدم الحاجة إليه مع ارتكاب وجه ضعيف جدا في أفصح كلام ، وقد قرأ بعض قراء الشواذ : وأما ثمود فهديناهم بنصب "ثمود " واستضعفها الناس .

وفي قوله : ثم إلي مرجعكم إلى كنتم فيه تختلفون التفات من غيبة إلى خطاب ، وذلك أنه قدم تعالى ذكر من كذب بعيسى وافترى عليه وهم اليهود لعنوا ، وقدم أيضا ذكر من آمن به وهم الحواريون رضي الله عنهم وقضى بعد ذلك بالإخبار بأنه يجعل متبعي عيسى فوق مخالفيه ، فلو جاء النظم على السياق من غير التفات لكان : ثم إلي مرجعهم فأحكم بينهم فيما كانوا ، ولكنه التفت إلى الخطاب لأنه أبلغ في البشارة وأزجر في النذارة .

[ ص: 216 ] وفي ترتيب هذه الأخبار الأربعة - أعني متوفيك ورافعك ومطهرك وجاعل - هذا الترتيب معنى حسن جدا ، وذلك أنه تعالى بشره أولا بأنه متوفيه ومتولي أمره فليس للكفار المتوعدين له بالقتل عليه سلطان ولا سبيل ، ثم بشره ثانيا بأنه رافعه إليه أي : سمائه محل أنبيائه وملائكته ومحل عبادته ليسكن فيها ويعبد ربه مع عابديه ، ثم ثالثا بتطهيره من أوضار الكفرة وأذاهم وما رموه به ، ثم رابعا برفعه تابعيه على من خالفهم ليتم بذلك سروره ، ويكمل فرحه ، وقدم البشارة بما يتعلق بنفسه على البشارة بما يتعلق بغيره ؛ لأن الإنسان بنفسه أهم وبشأنها أعنى ، قوا أنفسكم وأهليكم نارا "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول " .

التالي السابق


الخدمات العلمية