صفحة جزء
آ . (71) قوله تعالى : لم تلبسون : قرأ العامة بكسر الباء من لبس عليه يلبسه أي خلطه . وقرأ يحيى بن وثاب بفتحها جعله من لبست الثوب ألبسه على جهة المجاز ، وقرأ أبو مجلز : "تلبسون " بضم التاء وكسر الباء وتشديدها من لبس بالتشديد ومعناه التكثير . والباء في "بالباطل " للحال أي : ملتبسا بالباطل .

[ ص: 245 ] قوله : وتكتمون الحق جملة مستأنفة ، ولذلك لم ينتصب بإضمار أن في جواب الاستفهام ، وقد أجاز الزجاج من البصريين ، والفراء من الكوفيين فيه النصب من حيث العربية ، فتسقط النون ، فينتصب على الصرف عند الكوفيين ، وبإضمار أن عند البصريين ، وقد منع ذلك أبو علي الفارسي وأنكره ، وقال : "الاستفهام واقع على اللبس فحسب ، وأما " تكتمون "فخبر حتم لا يجوز فيه إلا الرفع " ، يعني أنه ليس معطوفا على "تلبسون " بل هو استئناف ، خبر عنهم أنهم يكتمون الحق مع علمهم أنه حق . ونقل أبو محمد بن عطية عن أبي علي أنه قال أيضا : "الصرف ها هنا يقبح ، وكذلك إضمار " أن " ، لأن " يكتمون "معطوف على موجب مقدر وليس بمستفهم عنه ، وإنما استفهم عن السبب في اللبس ، واللبس موجب ، فليست الآية بمنزلة قولهم : " لا تأكل السمك وتشرب اللبن "وبمنزلة قولك : " أتقوم فأقوم "والعطف على الموجب المقرر قبيح متى نصب ، إلا في ضرورة شعر كما روي :


1328 - ... ... ... ... وألحق بالحجاز فاستريحا



وقد قال سيبويه في قولك : " أسرت حتى تدخلها ؟ "لا يجوز إلا النصب في " تدخل "لأن السير مستفهم عنه غير موجب " ، وإذا قلنا : "أيهم سار حتى يدخلها ؟ رفعت لأن السير موجب والاستفهام إنما وقع عن غيره " .

[ ص: 246 ] قال الشيخ : وظاهر هذا النقل عنه معارضته لما نقل عنه قبله ، لأن ما قبله فيه أن الاستفهام وقع عن اللبس فحسب ، وأما "يكتمون " فخبر حتم لا يجوز فيه إلا الرفع ، وفيما نقله ابن عطية أن "يكتمون " معطوف على موجب مقدر وليس بمستفهم عنه ، فيدل العطف على اشتراكهما في الاستفهام عن سبب اللبس وسبب الكتم الموجبين ، وفرق بين هذا المعنى وبين أن يكون "يكتمون " إخبارا محضا لم يشترك مع اللبس في السؤال عن السبب ، وهذا الذي ذهب إليه أبو علي من أن الاستفهام إذا تضمن وقوع الفعل لا ينتصب الفعل بإضمار "أن " في جوابه تبعه في ذلك جمال الدين بن مالك ، فقال في "تسهيله " : "أو لاستفهام لا يتضمن وقوع الفعل " فإن تضمن وقوع الفعل امتنع النصب عنده نحو : "لم ضربت زيدا فيجاريك " لأن الضرب قد وقع . ولم يشترط غيرهما من النحويين ذلك ، بل إذا تعذر سبك المصدر مما قبله : إما لعدم تقدم فعل ، وإما لاستحالة سبك المصدر المراد به الاستقبال لأجل مضي الفعل فإنما يقدر مصدر مقدر استقباله بما يدل عليه المعنى ، فإذا قلت : لم ضربت زيدا [فأضربك] فالتقدير : ليكن منك إعلام بضرب زيد فمجازاة منا . وأما ما رد به أبو علي الفارسي على الزجاج والفراء فليس بلازم ، لأنه قد منع أن يراد بالفعل المضي ، إذ ليس نصا في ذلك ، إذ قد يمكن الاستقبال لتحقق صدوره لا سيما على الشخص الذي صدر منه أمثال ذلك ، وعلى تقدير تحقق المضي فلا يلزم الزجاج أيضا ، لأنه كما تقدم : إذا لم يمكن [ ص: 247 ] سبك مصدر مستقبل من الجملة الاستفهامية سبكناه من لازمها ، ويدل على إلغاء هذا الشرط والتأويل بما ذكرناه ما حكاه ابن كيسان من نصب المضارع بعد فعل ماض محقق الوقوع مستفهم عنه نحو : أين ذهب زيد فنتبعه ؟ ومن أبوك فنكرمه ؟ وكم مالك فنعرفه ؟ كل ذلك متأول بما ذكرت من انسباك المصدر المستقبل من لازم الجمل المتقدمة فإن التقدير : ليكن منك إعلام بذهاب زيد فاتباع منا ، وليكن منك إعلام بأبيك فإكرام له منا ، وليكن منك تعريف بقدر مالك فمعرفة منا "وهذا البحث الطويل على تقدير شيء لم يقع ، فإنه لم يقرأ لا في الشاذ ولا في غيره إلا ثابت النون ، ولكن للعلماء غرض في تطويل البحث تنقيحا للذهن .

ووراء هذا قراءة مشكلة رووها عن عبيد بن عمير وهي " لم تلبسوا وتكتموا "بحذف النون من الفعلين ، وهي قراءة لا تبعد عن الغلط البحت ، كأنه توهم أن " لم "هي " لم "الجازمة فجزم بها وقد نقل المفسرون عن بعض النحاة هنا أنهم يجزمون بـ " لم "حملا على لم ، نقل ذلك السجاوندي وغيره عنهم ، ولا أظن نحويا يقول ذلك البتة ، كيف يقول في جار ومجرور إنه يجزم!! هذا ما لا يتفوه به البتة ولا يطيق سماعه ، فإن يثبت هذا قراءة ولا بد فليكن مما حذف فيه نون الرفع تخفيفا حيث لا مقتضى لحذفها ، ومن ذلك قراءة بعضهم : قالوا ساحران تظاهرا بتشديد الظاء ، والأصل : تتظاهران ، فأدغم التاء في الظاء وحذف النون تخفيفا ، وفي الحديث : " والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا "يريد عليه السلام : [ ص: 248 ] لا تدخلون ولا تؤمنون ، لاستحالة النهي معنى ، وقال الشاعر :


1329 - أبيت أسري وتبيتي تدلكي     وجهك بالعنبر والمسك الذكي



يريد : تبيتين وتدلكين ، ومثله قول أبي طالب :


1330 - فإن يك قوم سرهم ما صنعتم     ستحتلبوها لاقحا غير باهل



يريد : فستحتلبونها ، ولا يجوز أن يتوهم في هذا البيت أن يكون حذف النون لأجل جواب الشرط ، لأن الفاء مرادة وجوبا ، لعدم صلاحية " ستحتلبوها "جوابا لاقترانه بحرف التنفيس .

قوله : وأنتم تعلمون جملة حالية ، ومتعلق العلم محذوف : إما اقتصارا وإما اختصارا ، أي : وأنتم تعلمون الحق من الباطل أو نبوة محمد ونحو ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية