صفحة جزء
آ . (75) قوله تعالى : من إن تأمنه : من مبتدأ ، و "من أهل " [ ص: 261 ] خبره ، قدم عليه ، و "من " : إما موصولة وإما نكرة ، و "إن تأمنه يؤده " هذه الجملة الشرطية : إما صلة فلا محل لها ، وإما صفة فمحلها الرفع .

وقرأ أبي : "تئمنه " في الحرفين ، و ما لك لا تأمنا بكسر حرف المضارعة ، وكذلك ابن مسعود والأشهب العقيلي ، إلا أنهما أبدلا الهمزة ياء ، وجعل ابن عطية ذلك لغة قريش ، وغلطه الشيخ . وقد تقدم لنا الكلام في كسر حرف المضارعة وشرط ذلك في سورة الفاتحة بكلام مشبع فليراجع ثمة .

والدينار أصله "دنار " بنونين ، فاستثقل توالي مثلين فأبدلوا أولهما حرف علة تخفيفا لكثرة دوره في لسانهم ، ويدل على ذلك رده إلى النونين تكسيرا وتصغيرا في قولهم : دنانير ودنينير ، مثله : قيراط : أصله قراط بدليل قراريط وقريريط كما قالوا : تظنيت وقصيت أظفاري ، يريدون تظننت وقصصت بثلاث نونات وثلاث صادات . والدينار معرب ، قالوا : ولم يختلف وزنه أصلا وهو أربعة وعشرون قيراطا ، كل قيراط ثلاث شعيرات معتدلة ، فالمجموع اثنتان وسبعون شعيرة .

وقرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم : "يؤده " بسكون الهاء في الحرفين ، وقرأ قالون : يؤده بكسر الهاء من دون صلة ، والباقون بكسرها موصولة بياء ، وعن هشام وجهان ، أحدهما : كقالون ، والآخر كالجماعة .

[ ص: 262 ] فأما قراءة أبي عمرو ومن ذكر معه فقد خرجوها على أوجه أحسنها أنه سكنت هاء الضمير إجراء للوصل مجرى الوقف ، وهو باب واسع مضى لك منه شيء نحو : يتسنه وانظر أنا أحيي وأميت وسيمر بك منه أشياء إن شاء الله تعالى ، وأنشد ابن مجاهد على ذلك قوله :


1336 - وأشرب الماء ما بي نحوه عطش إلا لأن عيونه سيل واديها



وأنشد الأخفش على ذلك أيضا :


1337 - فظلت لدى البيت العتيق أخيله     ومطواي مشتاقان له أرقان



إلا أن هذا يخصه بعضهم بضرورة الشعر ، وليس كما قال لما سيأتي .

وقد طعن بعضهم على هذه القراءة فقال الزجاج : "هذا الإسكان الذي روي عن هؤلاء غلط بين ، لأن الهاء لا ينبغي أن تجزم ، وإذا لم تجزم فلا تسكن في الوصل ، وأما أبو عمرو فأراه كان يختلس الكسرة فغلط عليه كما غلط عليه في بارئكم ، وقد حكى عنه سيبويه - وهو ضابط لمثل هذا - أنه كان يكسر كسرا خفيا ، يعني يكسر في " بارئكم "كسرا خفيا فظنه [ ص: 263 ] الراوي سكونا " . قلت : وهذا الرد من الزجاج ليس بشيء لوجوه منها : أنه فر من السكون إلى الاختلاس ، والذي نص على أن السكون لا يجوز نص على أن الاختلاس أيضا لا يجوز ، بل جعل الإسكان في الضرورة أحسن منه في الاختلاس قال : "ليجري الوصل مجرى الوقف إجراء كاملا " ، وجعل قوله "عيونه سيل واديها " أحسن من قوله :


1338 - ... ... ... ...     ما حج ربه في الدنيا ولا اعتمرا



حيث سكن الأول واختلس الثاني .

ومنها : أن هذه لغة ثابتة عن العرب حفظها الأئمة الأعلام كالكسائي والفراء ، وحكى الكسائي عن بني عقيل وبني كلاب : إن الإنسان لربه لكنود بسكون الهاء وكسرها من غير إشباع ، ويقولون : "له مال وله مال " بالإسكان والاختلاس . وقال الفراء : "من العرب من يجزم الهاء إذا تحرك ما قبلها فيقولون : ضربته ضربا شديدا ، فيسكنون الهاء كما يسكنون ميم " أنتم "و " فمنهم "وأصلها الرفع ، وأنشد :


1339 - لما رأى أن لا دعه ولا شبع     مال إلى أرطاة حقف فالطجع



قلت : وهذا عجيب من الفراء كيف ينشد هذا البيت في هذا المعرض [ ص: 264 ] لأن هذه الهاء مبدلة من تاء التأنيث التي كانت ثابتة في الوصل فقلبها هاء ساكنة في الوصل إجراء له مجرى الوقف ، وكلامنا إنما هو في هاء الضمير لا في هاء التأنيث ، لأن هاء التأنيث لا حظ لها في الحركة البتة ، ولذلك امتنع رومها وإشمامها في الوقف ، نصوا على ذلك ، وكان الزجاج يضعف في اللغة ، ولذلك رد على ثعلب في " فصيحه "أشياء أنكرها عن العرب ، فرد الناس عليه رده ، وقالوا : قالتها العرب ، فحفظها ثعلب ولم يحفظها الزجاج فليكن هذا منها .

وزعم بعضهم أن الفعل لما كان مجزوما وحلت الهاء محل لامه جرى عليها ما يجري على لام الفعل من السكون للجزم وهو غير سديد . وأما قراءة قالون فأنشدوا عليها :


1340 - له زجل كأنه صوت حاد      ... ... ... ...



وقول الآخر :


1341 - أنا ابن كلاب وابن أوس فمن يكن     قناعه مغطيا فإني لمجتلي



وقول الآخر :


1342 - وأغبر الظهر ينبي عن وليته     ما حج ربه في الدنيا ولا اعتمرا



وقد تقدم أنها لغة عقيل وكلاب أيضا .

[ ص: 265 ] وأما قراءة الباقين فواضحة . وقرأ الزهري : " يؤدهو "بضم الهاء بعدها واو ، وقد تقدم أن هذا هو الأصل في هاء الكناية ، وقرأ سلام كذلك ، إلا أنه ترك الواو فاختلس ، وهما نظيرتا قراءتي : " يؤد هي ويؤده "بالإشباع والاختلاس مع الكسر .

واعلم أن هذه الهاء متى جاءت بعد فعل مجزوم أو أمر معتل الآخر جرى فيها هذه الأوجه الثلاثة - أعني السكون والاختلاس والإشباع - وذلك : نؤته منها يرضه لكم نوله ما تولى ونصله جهنم فألقه إليهم ، وقد جاء ذلك في قراءة السبعة أعني الأوجه الثلاثة في بعض هذه الكلمات ، وبعضها لم يأت فيه إلا وجهان ، وسيأتي ذلك مفصلا في سوره إن شاء الله تعالى ، والسر فيه أن الهاء التي للكناية متى سبقها متحرك فالفصيح فيها الإشباع نحو : إنه ، وبه ، وله ، وإن سبقها ساكن فالأشهر الاختلاس ، وسواء كان ذلك الساكن صحيحا أو معتلا نحو : فيه ومنه ، وبعضهم يفرق بين المعتل والصحيح ، وقد أتقنت ذلك في أول الكتاب ، إذا علم ذلك فنقول : هذه الكلمات المشار إليها إن نظرنا إلى اللفظ فقد وقعت بعد متحرك فحقها أن تشبع حركتها موصولة بالياء أو الواو ، وإن سكنت فلما تقدم من إجراء الوصل مجرى الوقف ، وإن نظرنا إلى الأصل فقد سبقها ساكن وهو حرف [ ص: 266 ] العلة المحذوف للجزم ، فلذلك جاز الاختلاس ، وهذا أصل نافع يطرد معك عند قربك في هذا الكتاب من هذه الكلمات .

قوله : " بدينار " في هذه الباء أوجه ، أحدها : أنها على أصلها من الإلصاق وفيه قلق ، والثاني : أنها بمعنى في ، ولا بد من حذف مضاف أي : في حفظ دينار وفي حفظ قنطار . والثالث : أن الباء بمعنى على ، وقد عدي بها كثيرا : لا تأمنا على يوسف هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه وكذلك هي في " بقنطار " .

قوله : إلا ما دمت عليه قائما استثناء مفرغ من الظرف العام ، إذ التقدير : لا يؤده إليك في جميع المدد والأزمنة إلا في مدة دوامك قائما عليه متوكلا به . ودمت هذه هي الناقصة ترفع وتنصب ، وشرط إعمالها أن يتقدمها "ما " الظرفية كهذه الآية ، إذ التقدير إلا مدة دوامك ، ولا سوء ، فأما قولهم ، "يدوم " فمضارع "دام " التامة بمعنى بقي ، ولكونها صلة لـ "ما " الظرفية لزم أن تكون محتاجة إلى كلام آخر لتعمل في الظرف نحو : "لا أصحبك ما دمت باكيا " ، ولو قلت : "ما دام زيد قائما " من غير شيء لم يكن كلاما .

وجوز أبو البقاء في "ما " هذه أن تكون مصدرية فقط ، وذلك المصدر المنسبك منها ومن دام في محل نصب على الحال ، وهو استثناء مفرغ أيضا من الأحوال المقدرة العامة ، والتقدير : إلا في حال ملازمتك له ، وعلى هذا فتكون "دام " هنا تامة لما تقدم من أن تقدم الظرفية شرط في إعمالها ، وإذا كانت تامة انتصب "قائما " على الحال .

ويقال : دام يدوم كقام يقوم ، ودمت قائما بضم الفاء وهذه لغة الحجاز ، [ ص: 267 ] وتميم يقولون : دمت بكسرها ، وبها قرأ أبو عبد الرحمن وابن وثاب والأعمش وطلحة والفياض بن غزوان ، قال الفراء : "وهذه لغة تميم ويجتمعون في المضارع ، فيقولون : يدوم " ، يعني أن الحجازيين والتميميين اتفقوا على أن المضارع مضموم العين ، وكان قياس تميم أن تقول يدام كخاف يخاف ومات يمات ، فيكون وزنها عند الحجاز : فعل بفتح العين ، وعند التميميين : فعل بكسرها ، وهذا نقل الفراء ، وأما غيره فنقل عن تميم أنهم يقولون : دمت أدام كخفت أخاف ، نقل ذلك أبو إسحاق وغيره كالراغب الأصبهاني وأبي القاسم الزمخشري .

وأصل هذه المادة الدلالة على الثبوت والسكون ، يقال : "دام الماء " أي سكن ، وفي الحديث : " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم " وفي بعضه بزيادة "الذي لا يجرى " وهو تفسير له ، وأدمت القدر ودومتها : سكنت غليانها بالماء ، ومنه دام الشيء : إذا امتد عليه زمان ، ودومت الشمس : إذا وقفت في كبد السماء ، قال ذو الرمة :

[ ص: 268 ]

1343 - ... ... ... ...     والشمس حيرى لها في الجو تدويم



هكذا أنشد الراغب هذا الشطر على هذا المعنى ، وغيره ينشده على معنى أن الدوام يعبر به عن الاستدارة حول الشيء ، ومنه الدوام : وهو الدوار الذي يأخذ الإنسان في دماغه فيرى الأشياء دائرة ، وأنشد معه أيضا قول علقمة بن عبدة :


1344 - تشفي الصداع ولا يؤذيك صالبها     ولا يخالطها في الرأس تدويم



ومنه : دوم الطائر إذا حلق ودار .

وقوله : عليه متعلق بقائما ، والمعنى بالقيام : الملازمة لأن الأغلب أن المطالب يقوم على رأس المطالب ، ثم جعل عبارة عن الملازمة وإن لم يكن ثمة قيام .

قوله : ذلك بأنهم مبتدأ وخبر ، و "ذلك " إشارة إلى الاستحلال وعدم المؤاخذة في زعمهم ، أي : ذلك الاستحلال مستحق أو جائز بقولهم : " ليس علينا في الأميين سبيل " .

قوله : ليس علينا يجوز أن يكون في "ليس " ضمير الشأن وهو اسمها ، وحينئذ يجوز أن يكون "سبيل " مبتدأ و "علينا " الخبر ، والجملة خبر "ليس " ويجوز أن يكون "علينا " وحده هو الخبر ، و "سبيل " مرتفع به على الفاعلية ، ويجوز أن يكون "سبيل " اسم ليس ، والخبر أحد الجارين - أعني علينا أو في الأميين - ويجوز أن يتعلق "في الأميين " بالاستقرار الذي تعلق به "علينا " .

[ ص: 269 ] وجوز بعضهم أن يتعلق بنفس "ليس " نقله أبو البقاء وغيره وفي هذا النقل نظر ، وذلك أن هذه الأفعال النواقص في عملها في الظروف خلاف ، وبنوا الخلاف على الخلاف في دلالتها على الحدث فمن قال : تدل على الحدث جوز إعمالها في الظرف وشبهه ، ومن قال : لا تدل على الحدث منع إعمالها ، واتفقوا على أن "ليس " لا تدل على حدث البتة فكيف تعمل ؟ هذا ما لا يعقل . ويجوز أن يتعلق "في الأميين " بسبيل ، لأنه استعمل بمعنى الحرج والضمان ونحوهما ، ويجوز أن يكون حالا منه ، فيتعلق بمحذوف .

وقوله : على الله الكذب يجوز أن يتعلق "على الله " بالكذب وإن كان مصدرا ؛ لأنه يتسع في الظرف وعديله ما لا يتسع في غيرهما ، ومن منع علقه بيقولون متضمنا معنى يفترون فعدي تعديته ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من "الكذب " .

وقوله : وهم يعلمون جملة حالية ، ومفعول العلم محذوف اقتصارا أي : وهم من ذوي العلم ، أو اختصارا أي : يعلمون كذبهم وافتراءهم وهو أقبح لهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية