صفحة جزء
آ . (79) قوله تعالى : ما كان لبشر أن يؤتيه : "أن يؤتيه " اسم كان و "لبشر " خبرها . وقوله : ثم يقول للناس عطف على "يؤتيه " ، وهذا العطف لازم من حيث المعنى ، إذ لو سكت عنه لم يصح المعنى ، لأن الله تعالى قد أتى كثيرا من البشر الكتاب والحكم والنبوة ، وهذا كما يقولون في بعض الأحوال والمفاعيل : إنها لازمة ، فلا غرو أيضا في لزوم المعطوف ، وإنما بينت لك هذا لأجل قراءة سأذكرها . ومعنى مجيء هذا النفي في كلام العرب نحو : "ما كان لزيد أن يفعل " ونحوه نفي الكون والمراد نفي خبره ، وهو على قسمين : قسم يكون النفي فيه من جهة الفعل ، ويعبر عنه بالنفي التام نحو هذه الآية ، لأن الله تعالى لا يعطي الكتاب والحكم والنبوة لمن يقول هذه المقالة الشنعاء ، ونحوه : ما كان لكم أن تنبتوا شجرها وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله ، وقسم يكون النفي فيه على سبيل الانتقاء كقول أبي بكر " ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم فيصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، ويعرف القسمان من السياق .

[ ص: 273 ] وقرأ العامة : "يقول " بالنصب نسقا على "يؤتيه " ، وقرأ ابن كثير في رواية شبل بن عباد ، وأبو عمرو في رواية محبوب : "يقول " بالرفع ، وخرجوها على القطع والاستئناف ، وهو مشكل لما قدمته من أن المعنى على لزوم ذكر هذا المعطوف ، إذ لا يستقل ما قبله لفساد المعنى فيكون يقولون على القطع والاستئناف ؟

قوله : عبادا قال ابن عطية : "ومن جموعه عبيد وعبدى . قال بعض اللغويين : هذه الجموع كلها بمعنى ، وقال بعضهم : العباد لله ، والعبيد والعبدى للبشر ، وقال بعضهم : العبدى إنما يقال في العبد من العبيد كأنه مبالغة تقتضي الإغراق في العبودية ، والذي استقريت في لفظ العباد أنه جمع " عبد "متى سيقت اللفظة في مضمار الترفع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير وتصغير الشأن ، وانظر قوله : والله رءوف بالعباد و عباد مكرمون و يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ، وقول عيسى في معنى الشفاعة والتعريض : إن تعذبهم فإنهم عبادك ، وأما العبيد فيستعمل في تحقيره ، ومنه قول امرئ القيس :

[ ص: 274 ]

1346 - قولا لدودان عبيد العصا ما غركم بالأسد الباسل



وقال حمزة بن عبد المطلب : " وهل أنتم إلا عبيد لأبي " ، ومنه : وما ربك بظلام للعبيد لأنه مكان تشفيق وإعلام بقلة انتصارهم ومقدرتهم ، وأنه تعالى ليس بظلام لهم مع ذلك ، ولما كانت لفظة العباد تقتضي الطاعة لم تقع هنا ، ولذلك أنس بها في قوله تعالى : قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم "فهذا النوع من النظر يسلك بك سبيل العجائب في فصاحة القرآن العزيز على الطريقة العربية " قال الشيخ : "وفيه بعض مناقشة أما قوله : ومن جموعه عبيد وعبدى " فأما "عبيد " فالأصح أنه جمع . وقيل : اسم جمع ، "وأما عبدى فاسم جمع ، وألفه للتأنيث " قلت : لا مناقشة ، فإنه إنما يعني جمعا معنويا ولا شك أن اسم الجمع جمع معنوي . ثم قال : "وأما ما استقراه من أن " عبادا "يساق في معنى الترفع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير والتصغير وإيراده ألفاظا في القرآن بلفظ العباد ، وأما قوله : " وأما العبيد فيستعمل في تحقير وأنشد بيت امرئ القيس وقول حمزة "وهل أنتم إلا عبيد أبي " وقوله تعالى وما ربك بظلام للعبيد فاستقراء ليس بصحيح ، وإنما كثر استعمال "عباد " دون "عبيد " لأن فعالا في جمع فعل غير اليائي العين قياسي مطرد ، وجمع فعل على فعيل لا يطرد . قال سيبويه : "وربما جاء فعيلا وهو قليل نحو : الكليب والعبيد " فلما كان فعال مقيسا في جمع "عبد " جاء "عباد " كثيرا . وأماوما ربك بظلام للعبيد فحسن مجيئه هنا - وإن لم يكن مقيسا - أنه جاء لتواخي الفواصل ، ألا ترى أن قبله أولئك ينادون من مكان [ ص: 275 ] بعيد وبعده قالوا آذناك ما منا من شهيد فحسن مجيئه بلفظ العبيد مراعاة هاتين الفاصلتين ، ونظير هذا في سورة ق : وما أنا بظلام للعبيد لأن قبله : وقد قدمت إليكم بالوعيد وبعده : " وتقول هل من مزيد " . وأما مدلوله فمدلول "عباد " سواء . وأما بيت امرئ القيس فلم يفهم التحقير من لفظ "عبيد " إنما فهم من إضافتهم إلى العصا ومن مجموع البيت ، وكذلك قول حمزة : "هل أنتم إلا عبيد أبي " إنما فهم التحقير من قرينة الحال التي كان عليها ، وأتى في البيت وفي قول حمزة على أحد الجائزين " . قلت : رده عليه استقراءه من غير إتيانه بما يخرم الاستقراء مردود . وأما ادعاؤه أن التحقير مفهوم من السياق دون لفظ عبيد فممنوع ، ولأنه إذا دار إحالة الحكم بين اللفظ وغيره فالإحالة على اللفظ أولى .

وقوله : " لي "صفة لعباد ، و " من دون "متعلق بلفظ " عباد "لما فيه من معنى الفعل ، يجوز أن يكون صفة ثانية وأن يكون حالا لتخصص النكرة بالوصف .

قوله : ولكن كونوا أي : ولكن يقول كونوا ، فلا بد من إضمار القول هنا . والربانيون جمع رباني ، وفيه قولان ، أحدهما أنه منسوب إلى الرب ، والألف والنون فيه زائدتان في النسب دلالة على المبالغة كرقباني وشعراني ولحياني للغليظ الرقبة والكثير الشعر والطويل اللحية ، ولا تفرد هذه الزيادة عن النسب ، أما إذا نسبوا إلى الرقبة والشعر واللحية من غير مبالغة قالوا : رقبي وشعري ولحوي ، هذا معنى قول سيبويه . والثاني : أنه منسوب إلى [ ص: 276 ] ربان والربان هو المعلم للخير ومن يسوس الناس ويعرفهم أمر دينهم ، فالألف والنون دالتان على زيادة الوصف كهي في عطشان وريان وجوعان ووسنان ، وتكون النسبة على هذا في الوصف نحو أحمري ، قال :


1347 - أطربا وأنت قنسري     والدهر بالإنسان دواري



وقال سيبويه : "زادوا ألفا ونونا في الرباني أرادوا تخصيصا بعلم الرب دون غيره من العلوم ، وهذا كما قالوا : شعراني ولحياني ورقباني " وفي التفسير : "كونوا فقهاء علماء " ، ولما مات ابن عباس قال محمد بن الحنفية : "مات اليوم رباني هذه الأمة " .

قوله : بما كنتم الباء سببية أي : كونوا علماء بسبب كونكم . وفي متعلق هذه الباء حينئذ أقوال أحدها : أنه متعلقة بكونوا ، كذا ذكره أبو البقاء والخلاف مشهور . الثاني : أن تتعلق بربانيين ، لأن فيه معنى الفعل . الثالث : أن تتعلق بمحذوف على أنها صفة لربانيين ذكره أبو البقاء وليس بواضح المعنى .

و "ما " مصدرية ، وظاهر كلام الشيخ أنه يجوز أن تكون غير ذلك ، فإنه قال : "وما الظاهر أنها مصدرية " فهذا يجوز غير ذلك ، وجوازه فيه بعد ، [ ص: 277 ] وهو أن تكون موصولة ، وحينئذ تحتاج إلى عائد وهو مقدر ، أي : بسبب الذي تعلمون به الكتاب ، وقد نقص شرط وهو اتحاد المتعلق فلذلك لم يظهر جعلها غير مصدرية .

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو : "تعلمون " مفتوح حرف المضارعة ، ساكن العين مفتوح اللام من : علم يعلم ، أي : تعرفون فيتعدى لواحد ، وباقي السبعة بضم حرف المضارعة وفتح العين وتشديد اللام مكسورة ، فيتعدى لاثنين أولهما محذوف ، تقديره : تعلمون الناس والطالبين الكتاب ، ويجوز ألا يراد مفعول أي : كنتم من أهل تعليم الكتاب ، وهو نظير : "أطعم الخبز " المقصود الأهم إطعام الخبز من غير نظر إلى من يطعمه ، فالتضعيف فيه للتعدية .

وقد رجح جماعة هذه القراءة على قراءة نافع بأنها أبلغ ؛ وذلك أن كل معلم عالم ، وليس كل عالم معلما ، فالوصف بالتعليم أبلغ ، وبأن قبله ذكر الربانيين ، والرباني يقتضي أن يعلم ويعلم غيره ، لا أن يقتصر بالعلم على نفسه .

ورجح بعضهم الأولى بأنه لم يذكر إلا مفعول واحد والأصل عدم الحذف ، والتخفيف مسوغ لذلك بخلاف التشديد ، فإنه لا بد من تقدير مفعول ، وأيضا فهو أوفق لتدرسون . والقراءتان متواترتان فلا ينبغي ترجيح إحداهما على الأخرى ، وقد قدمت ذلك في أوائل هذا الموضوع .

[ ص: 278 ] وقرأ الحسن ومجاهد : "تعلمون " فتح التاء والعين واللام مشددة من "تعلم " والأصل : تتعلمون بتاءين فحذفت إحداهما . وبما كنتم تدرسون كالذي قبله .

والعامة على "تدرسون " بفتح التاء وضم الراء من الدرس وهو مناسب لتعلمون من علم ثلاثيا ، قال بعضهم : "كان حق من قرأ " تعلمون "بالتشديد أن يقرأ : " تدرسون "بالتشديد " وليس بلازم ، إذ المعنى : كنتم تعلمون غيركم ثم صرتم تدرسون ، وبما كنتم تدرسونه عليهم أي : تتلونه عليهم كقوله تعالى : لتقرأه على الناس .

وقرأ أبو حيوة في إحدى الروايتين عنه "تدرسون " بكسر الراء وهي لغة ضعيفة ، يقال : درس العلم يدرسه بكسر العين في المضارع وهما لغتان في مضارع درس ، وقرأ هو أيضا في رواية : "تدرسون " من درس بالتشديد ، وفيه وجهان ، أحدهما : أن يكون التضعيف فيه للتكثير ، فيكون موافقا لقراءة تعلمون بالتخفيف . والثاني : أن التضعيف للتعدية ويكون المفعولان محذوفين لفهم المعنى ، والتقدير : تدرسون غيركم العلم أي : تحملونهم على الدرس . وقرئ "تدرسون " من أدرس ، كتكرمون من أكرم على أن أفعل بمعنى فعل بالتشديد ، فأدرس ودرس واحد كأكرم وكرم وأنزل ونزل .

والدرس : التكرار والإدمان على الشيء ومنه : درس زيد الكتاب والقرآن يدرسه ويدرسه أي كرر عليه ، ويقال : درست الكتاب أي : تناولت أثره بالحفظ .

[ ص: 279 ] ولما كان ذلك بمداومة القرآن عبر عن إدامة القرآن بالدرس ، ودرس المنزل : ذهب أثره وطلل عارف ودارس بمعنى .

التالي السابق


الخدمات العلمية