صفحة جزء
آ . (4) قوله : وما يبث من دابة : فيه وجهان ، أظهرهما : أنه معطوف على " خلقكم " المجرور بـ " في " والتقدير : وفي ما يبث . والثاني : أنه معطوف على الضمير المخفوض بالخلق ، وذلك على مذهب من يرى العطف على الضمير المجرور دون إعادة الجار واستقبحه الزمخشري وإن [ ص: 634 ] أكد نحو : " مررت بك أنت وزيد " يشير بذلك إلى مذهب الجرمي فإنه يقول : إن أكد جاز ، وإلا فلا ، فقوله مذهب ثالث .

قوله : آيات لقوم يوقنون و آيات لقوم يعقلون قرأ " آيات " بالكسر في الموضعين الأخوان ، والباقون برفعهما . ولا خلاف في كسر الأولى لأنها اسم " إن " . فأما آيات لقوم يوقنون بالكسر فيجوز فيها وجهان ، أحدهما : أنها معطوفة على اسم " إن " ، والخبر قوله : " وفي خلقكم " . كأنه قيل : وإن في خلقكم وما يبث من دابة آيات . والثاني : أن تكون كررت تأكيدا لآيات الأولى ، ويكون " في خلقكم " معطوفا على " في السماوات " كرر معه حرف الجر توكيدا . ونظيره أن تقول : " إن في بيتك زيدا وفي السوق زيدا " فزيدا الثاني تأكيد للأول ، كأنك قلت : إن زيدا زيدا في بيتك وفي السوق وليس في هذه عطف على معمولي عاملين البتة .

وقد وهم أبو البقاء فجعلها من ذلك فقال : آيات لقوم يوقنون يقرأ بكسر التاء ، وفيه وجهان ، أحدهما : أن " إن " مضمرة حذفت لدلالة " إن " الأولى عليها ، وليست " آيات " معطوفة على " آيات " الأولى لما فيه من العطف على معمولي عاملين . والثاني : أن تكون كررت للتأكيد لأنها من لفظ " آيات " الأولى ، وإعرابها كقولك : " إن بثوبك دما وبثوب زيد دما " فـ " دم " الثاني مكرر ; لأنك مستغن عن ذكره " انتهى .

[ ص: 635 ] فقوله : " وليست معطوفة على آيات الأولى لما فيه من العطف على عاملين " وهم ; أين معمول العامل الآخر ؟ وكأنه توهم أن " في " ساقطة من قوله : " وفي خلقكم " أو اختلطت عليه آيات لقوم يعقلون بهذه ; لأن تيك فيها ما يوهم العطف على عاملين وقد ذكره هو أيضا .

وأما الرفع فمن وجهين أيضا ، أحدهما : أن يكون " في خلقكم " خبرا مقدما ، و " آيات " مبتدأ مؤخرا ، وهي جملة معطوفة على جملة مؤكدة . بـ " إن " . والثاني : أن تكون معطوفة على " آيات " الأولى باعتبار المحل عند من يجيز ذلك ، لا سيما عند من يقول : إنه يجوز ذلك بعد الخبر بإجماع .

وأما قوله : واختلاف الليل والنهار الآية فقد عرفت أن الأخوين يقرآن " آيات " بالكسر ، وهي تحتاج إلى إيضاح ، فإن الناس قد تكلموا فيها كلاما كثيرا ، وخرجوها على أوجه مختلفة ، وبها استدل على جواز العطف على عاملين .

قلت : والعطف على عاملين لا يختص بقراءة الأخوين بل يجوز أن يستدل عليه أيضا بقراءة الباقين ، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى . فأما قراءة الأخوين ففيها أوجه ، أحدها : أن يكون " اختلاف الليل " مجرورا بـ " في " مضمرة ، وإنما حذفت لتقدم ذكرها مرتين ، وحرف الجر إذا دل عليه دليل جاز حذفه وإبقاء عمله . وأنشد سيبويه :


4023 - الآن قربت تهجونا وتشتمنا فاذهب فما بك والأيام من عجب



تقديره : وبالأيام لتقدم الباء في " بك " ولا يجوز عطفه على الكاف لأنه ليس من مذهبه - كما عرفت - العطف على الضمير المجرور دون إعادة [ ص: 636 ] الجار ، فالتقدير في هذه الآية : " وفي اختلاف آيات " فـ " آيات " على ما تقدم من الوجهين في " آيات " قبلها : العطف أو التأكيد . قالوا : ويدل على ذلك قراءة عبد الله " وفي اختلاف " تصريحا بـ " في " . فهذان وجهان .

الثالث : أن يعطف " اختلاف " على المجرور بـ " في " وآيات على المنصوب بـ " إن " . وهذا هو العطف على عاملين ، وتحقيقه على معمولي عاملين : وذلك أنك عطفت " اختلاف " على خلق وهو مجرور بـ " في " فهو معمول عامل ، وعطفت " آيات " على اسم " إن " وهو معمول عامل آخر ، فقد عطفت بحرف واحد وهو الواو معمولين وهما " اختلاف " و " آيات " على معمولين قبلهما وهما : خلق وآيات . وبظاهرها استدل من جوز ذلك كالأخفش . وفي المسألة أربعة مذاهب : المنع مطلقا ، وهو مذهب سيبويه وجمهور البصريين . قالوا : لأنه يؤدي إلى إقامة حرف العطف مقام عاملين وهو لا يجوز ; لأنه لو جاز في عاملين لجاز في ثلاثة ، ولا قائل به ، ولأن حرف العطف ضعيف فلا يقوى أن ينوب عن عاملين ولأن القائل بجواز ذلك يستضعفه ، والأحسن عنده أن لا يجوز ، فلا ينبغي أن يحمل عليه كتاب الله ، ولأنه بمنزلة التعديتين بمعد واحد ، وهو غير جائز .

قال ابن السراج : " العطف على عاملين خطأ في القياس ، غير مسموع من العرب " ثم حمل ما في هذه الآية على التكرار للتأكيد . قال الرماني : " هو كقولك : " إن في الدار زيدا والبيت زيدا " فهذا جائز بإجماع فتدبر هذا الوجه [ ص: 637 ] الذي ذكره ابن السراج فإنه حسن جدا ، لا يجوز أن يحمل كتاب الله إلا عليه . وقد بينت القراءة بالكسر ولا عيب فيها في القرآن على وجه ، والعطف على عاملين عيب عند من أجازه ومن لم يجزه ، فقد تناهى في العيب ، فلا يجوز حمل هذه الآية إلا على ما ذكره ابن السراج دون ما ذهب إليه غيره " .

قلت : وهذا الحصر منه غير مسلم فإن في الآية تخريجات أخر غير ما ذكره ابن السراج يجوز الحمل عليها . وقال الزجاج : " ومثله في الشعر :


4024 - أكل امرئ تحسبين امرأ     ونار توقد بالليل نارا



وأنشد الفارسي للفرزدق :


4025 - وباشر راعيها الصلا بلبانه     وجنبيه حر النار ما يتحرق



وقول الآخر :


4026 - أوصيت من ربدة قلبا حرا     بالكلب خيرا والحماة شرا



قلت : أما البيت الأول فظاهره أنه عطف و " نار " على " امرئ " المخفوض بـ " كل " و " نارا " الثانية على " امرأ " الثاني . والتقدير : وتحسبين كل نار نارا ، فقد عطف على معمولي عاملين . والبيت الثاني عطف فيه " جنبيه " على " بلبانه " وعطف " حر النار " على " الصلا " ، والتقدير : وباشر بجنبيه حر النار ، والبيت [ ص: 638 ] الثالث عطف فيه " الحماة " على " الكلب " و " شرا " على " خيرا " ، تقديره وأوصيت بالحماة شرا . وسيبويه في جميع ذلك يرى الجر بخافض مقدر لكنه عورض : بأن إعمال حرف الجر مضمرا ضعيف جدا ، ألا ترى أنه لا يجوز " مررت زيد " بخفض " زيد " إلا في ضرورة كقوله :


4027 - إذا قيل أي الناس شر قبيلة     أشارت كليب بالأكف الأصابع



يريد : إلى كليب ، وقول الآخر :


4028- ... ... ... ...     حتى تبذخ فارتقى الأعلام



أي إلى الأعلام ، فقد فر من شيء فوقع في أضعف منه . وأجيب عن ذلك : بأنه لما تقدم ذكر الحرف في اللفظ قويت الدلالة عليه ، فكأنه ملفوظ به بخلاف ما أوردتموه في المثال والشعر .

والمذهب الثاني : التفصيل - وهو مذهب الأخفش - وذلك أنه يجوز بشرطين ، أحدهما : أن يكون أحد العاملين جارا . والثاني : أن يتصل المعطوف بالعاطف أو يفصل بلا ، مثال الأول الآية الكريمة والأبيات التي قدمتها . ولذلك استصوب المبرد استشهاده بالآية . ومثال الفصل بـ لا قولك : " ما في الدار [ ص: 639 ] زيد ولا الحجرة عمرو " ، فلو فقد الشرطان نحو : إن زيدا شتم بشرا ، ووالله خالدا هندا ، أو فقد أحدهما نحو : إن زيدا ضرب بكرا ، وخالدا بشرا . فقد نقل ابن مالك الامتناع عند الجميع . وفيه نظر لما ستعرفه من الخلاف .

الثالث : أنه يجوز بشرط أن يكون أحد العاملين جارا ، وأن يكون متقدما ، نحو الآية الكريمة ، فلو لم يتقدم نحو : " إن زيدا في الدار ، وعمرا السوق " لم يجز ، وكذا لو لم يكن حرف جر كما تقدم تمثيله .

الرابع : الجواز ، ويعزى للفراء .

الوجه الرابع من أوجه تخريج القراءة المذكورة : أن تنتصب " آيات " على الاختصاص .

قاله الزمخشري ، وسيأتي فيما أحكيه عنه .

وأما قراءة الرفع ففيها أوجه ، أحدها : أن يكون الأول والثاني ما تقدم في آيات لقوم يوقنون . الثالث : أن تكون تأكيدا لآيات التي قبلها ، كما كانت كذلك في قراءة النصب . الرابع : أن تكون المسألة من باب العطف على عاملين ; وذلك أن " اختلاف " عطف على " خلقكم " وهو معمول لـ " في " و " آيات " معطوفة على " آيات " قبلها ، وهي معمولة للابتداء فقد عطف على معمولي عاملين في هذه القراءة أيضا . قال الزمخشري : " قرئ آيات لقوم يوقنون بالرفع والنصب على قولك : " إن زيدا في الدار وعمرا في السوق ، أو وعمرو في السوق " . وأما قوله : آيات لقوم يعقلون فمن العطف على عاملين سواء نصبت أم رفعت فالعاملان في النصب هما : " إن " ، و " في " أقيمت الواو مقامهما فعملت الجر في و " واختلاف الليل والنهار" والنصب في " آيات " .

[ ص: 640 ] وإذا رفعت فالعاملان : الابتداء ، و " في " عملت الرفع في " آيات " والجر في " اختلاف " . ثم قال في توجيه النصب : " والثاني أن ينتصب على الاختصاص بعد انقضاء المجرور " .

الوجه الخامس أن يرتفع " آيات " على خبر ابتداء مضمر أي : هي آيات . وناقشه الشيخ فقال : " ونسبة الجر والرفع ، والجر والنصب للواو ليس بصحيح ; لأن الصحيح من المذاهب أن حرف العطف لا يعمل " قلت : وقد ناقشه الشيخ شهاب الدين أبو شامة أيضا فقال : " فمنهم من يقول : هو على هذه القراءة أيضا - يعني قراءة الرفع - عطف على عاملين وهما حرف " في " ، والابتداء المقتضي للرفع . ومنهم من لا يطلق هذه العبارة في هذه القراءة ; لأن الابتداء ليس بعامل لفظي " .

وقرئ " واختلاف " بالرفع " آية " بالرفع والتوحيد على الابتداء والخبر ، وكذلك قرئ وما يبث من دآبة آية بالتوحيد . وقرأ زيد بن علي وطلحة وعيسى " وتصريف الريح " كذا قال الشيخ . قلت وقد قرأ بهذه القراءة حمزة والكسائي أيضا ، وقد تقدم ذلك في سورة البقرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية