صفحة جزء
آ . (86) قوله تعالى : كيف يهدي : كقوله : كيف تكفرون وقيل الاستفهام هنا معناه النفي ، وأنشد :

[ ص: 301 ]

1351 - كيف نومي على الفراش ولما تشمل الشام غارة شعواء



وقول الآخر :


1352 - فهذي سيوف يا صدي بن مالك     كثير ولكن كيف بالسيف ضارب



قوله : وشهدوا في هذه الجملة ثلاثة أوجه ، أحدها : أنها معطوفة على "كفروا " و "كفروا " في محل نصب نعتا لقوما ، أي : كيف يهدي من جمع بين هذين الأمرين ، وإلى هذا ذهب ابن عطية والحوفي وأبو البقاء ، إلا أن مكيا قد رد هذا الوجه فقال : "لا يجوز عطف " شهدوا "على " كفروا "لفساد المعنى " ، ولم يبين جهة الفساد فكأنه فهم الترتيب بين الكفر والشهادة ، فلذلك فسد المعنى ، وهذا غير لازم ، فإن الواو لا تقتضي ترتيبا ، ولذلك قال ابن عطية : "المعنى مفهوم أن الشهادة قبل الكفر والواو لا ترتب " .

الثاني : أنها في محل نصب على الحال من واو "كفروا " ، والعامل فيها الرافع لصاحبها ، و "قد " مضمرة معها على رأي ، أي : كفروا وقد شهدوا ، وإليه ذهب جماعة كالزمخشري وأبي البقاء وغيرهما ، قال أبو البقاء : "ولا يجوز أن يكون العامل " يهدي "لأنه يهدي من شهد أن الرسول حق ، يعني أنه لا يجوز أن يكون حالا من " قوما " ، والعامل في الحال " يهدي "لما ذكر من فساد المعنى .

[ ص: 302 ] الثالث : أن يكون معطوفا على " إيمانهم "لما تضمنه من الانحلال لجملة فعلية ، إذ التقدير : بعد أن آمنوا وشهدوا ، وإلى هذا ذهب جماعة ، قال الزمخشري : " أن يعطف على ما في "إيمانهم " من معنى الفعل ، لأن معناه : بعد أن آمنوا ، كقوله تعالى : فأصدق وأكن وقوله :


1353 - مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة     ولا ناعب إلا ببين غرابها

انتهى . وجه تنظيره ذلك بالآية والبيت توهم وجود ما يسوغ العطف عليه في الجملة ، كذا يقول النحاة : جزم على التوهم أي : لسقوط الفاء ، إذ لو سقطت لانجزم في جواب التحضيض ، وكذا يقولون : توهم وجود الباء فجر ، وفي العبارة بالنسبة إلى القرآن سوء أدب ، ولكنهم لم يقصدوا ذلك حاش لله ، وكان تنظير الزمخشري بغير ذلك أولى كقوله : إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا ، إذ هو في قوة : إن الذين صدقوا وأقرضوا ، وفي هذه الآية بحث سيمر بك إن شاء الله تعالى .

وقال الواحدي : "عطف الفعل على المصدر ؛ لأنه أراد بالمصدر الفعل تقديره : كفروا بالله بعد أن آمنوا ، فهو عطف على المعنى كما قال :


1354 - للبس عباءة وتقر عيني     أحب إلي من لبس الشفوف



معناه : لأن ألبس وتقر عيني " فظاهر عبارة الزمخشري والواحدي أن [ ص: 303 ] الأول يؤول لأجل الثاني ، وهذا ليس بظاهر ، لأنا إنما نحتاج إلى ذلك لكون الموضع يطلبه فعلا كقوله : إن المصدقين لأن الموصول يطلب جملة فعلية فاحتجنا أن نتأول اسم الفاعل بفعل ، وعطفنا عليه "وأقرضوا " ، وإما "بعد إيمانهم " وقوله "للبس عباءة " فليس مكان الاسم محتاجا إلى فعل ، فالذي ينبغي : أن نتأول الثاني باسم ليصح عطفه على الاسم الصريح قبله ، وتأويله بأن نأتي معه بـ "أن " المصدرية مقدرة ، وتقديره : بعد إيمانهم وأن شهدوا ، أي : وشهادتهم ، ولهذا تأول النحويون قولها : "للبس عباءة وتقر " : وأن تقر ، إذ التقدير : وقرة عيني ، وإلى هذا الذي ذكرته ذهب أبو البقاء فقال "التقدير : بعد أن آمنوا وأن شهدوا ، فيكون في موضع جر " . انتهى ، يعني أنه على تأويل مصدر معطوف على المصدر الصريح المجرور بالظرف ، وكلام الجرجاني فيه ما يشهد لهذا ويشهد لتقدير الزمخشري فإنه قال : قوله "وشهدوا " منسوق على ما يمكن في التقدير ، وذلك أن قوله "بعد إيمانهم " يمكن أن يكون بعد "أن آمنوا " وأن الخفيفة مع الفعل بمنزلة المصدر كقوله : وأن تصوموا خير لكم أي : والصوم ، ومثله مما حمل فيه على المعنى قوله تعالى : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل فهو عطف على قوله : إلا وحيا ، ويمكن فيه : إلا أن يوحى إليه ، فلما كان قوله إلا وحيا بمعنى : إلا أن يوحى إليه حمله على ذلك ، ومثله من الشعر قوله :


1355 - فظل طهاة اللحم من بين منضج     صفيف شواء أو قدير معجل



[ ص: 304 ] خفض قوله "قدير " لأنه عطف على ما يمكن في قوله "منضج " لأنه أمكن أن يكون مضافا إلى الصفيف فحمله على ذلك قلت : فإتيانه بهذا البيت نظير إتيان الزمخشري بالآية الكريمة والبيت المتقدمين ، لأنه جر "قدير " هنا على التوهم ، كأنه توهم إضافة اسم الفاعل إلى مفعوله تخفيفا فجر على التوهم ، كما توهم الآخر وجود الباء في قوله : "ليسوا مصلحين " ، لأنها كثيرا ما تزاد في خبر ليس . وقوله : أن الرسول الجمهور على أنه وصف بمعنى المرسل ، وقيل : هو بمعنى الرسالة فيكون مصدرا وقد تقدم ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية