صفحة جزء
آ . (15) قوله : مثل الجنة : فيه أوجه ، أحدها : أنه مبتدأ ، وخبره مقدر . فقدره النضر بن شميل : مثل الجنة ما تسمعون ، فـ " ما تسمعون " خبره ، و " فيها أنهار " مفسر له . وقدره سيبويه : " فيما يتلى عليكم مثل الجنة " ، والجملة بعدها أيضا مفسرة للمثل . الثاني : أن " مثل " زائدة تقديره : الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار . ونظير زيادة " مثل " هنا زيادة " اسم " في قوله : [ ص: 691 ]

4055 - إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ... ... ...



الثالث : أن " مثل الجنة " مبتدأ ، والخبر قوله : " فيها أنهار " ، وهذا ينبغي أن يمتنع ; إذ لا عائد من الجملة إلى المبتدأ ، ولا ينفع كون الضمير عائدا على ما أضيف إليه المبتدأ . الرابع : أن " مثل الجنة " مبتدأ ، خبره " كمن هو خالد في النار ، فقدره ابن عطية : " أمثل أهل الجنة كمن هو خالد " ، فقدر حرف الإنكار ومضافا ليصح . وقدره الزمخشري : " أمثل الجنة كمثل جزاء من هو خالد " . والجملة من قوله : " فيها أنهار " على هذا فيها ثلاثة أوجه ، أحدها : هي حال من الجنة أي : مستقرة فيها أنهار . الثاني : أنها خبر لمبتدأ مضمر أي : هي فيها أنهار ، كأن قائلا قال : ما مثلها ؟ فقيل : فيها أنهار . الثالث : أن تكون تكريرا للصلة ; لأنها في حكمها ألا ترى إلى أنه يصح قولك : التي فيها أنهار ، وإنما عري قوله : " مثل الجنة " من حرف الإنكار تصويرا لمكابرة من يسوي بين المستمسك بالبينة وبين التابع هواه كمن يسوي بين الجنة التي صفتها كيت وكيت ، وبين النار التي صفتها أن يسقى أهلها الحميم . ونظيره قول القائل :


4056 - أفرح أن أرزأ الكرام وأن     أورث ذودا شصائصا نبلا



هو كلام منكر للفرح برزئه الكرام ووراثة الذود ، مع تعريه من حرف الإنكار ، ذكر ذلك كله الزمخشري بأطول من هذه العبارة .

[ ص: 692 ] وقرأ علي بن أبي طالب " مثال الجنة " . وعنه أيضا وعن ابن عباس وابن مسعود " أمثال " بالجمع .

قوله : " آسن " قرأ ابن كثير " أسن " بزنة حذر وهو اسم فاعل من أسن بالكسر يأسن ، فهو أسن كـ حذر يحذر فهو حذر . والباقون " آسن " بزنة ضارب من أسن بالفتح يأسن ، يقال : أسن الماء بالفتح يأسن ويأسن بالكسر والضم أسونا ، كذا ذكره ثعلب في " فصيحه " . وقال اليزيدي : " يقال : أسن بالكسر يأسن بالفتح أسنا أي : تغير طعمه . وأما أسن الرجل - إذا دخل بئرا فأصابه من ريحها ما جعل في رأسه دوارا - فأسن بالكسر فقط .

قال الشاعر :


4057 - قد أترك القرن مصفرا أنامله     يميد في الرمح ميد المائح الأسن



وقرئ " يسن " بالياء بدل الهمزة . قال أبو علي : " هو تخفيف أسن " وهو تخفيف غريب .

قوله : لم يتغير طعمه صفة لـ " لبن " . قوله : " لذة " يجوز أن يكون تأنيث [ ص: 693 ] لذ ، ولذ بمعنى لذيذ ، ولا تأويل على هذا ، ويجوز أن يكون مصدرا وصف به . وفيه التأويلات المشهورة . والعامة على جر " لذة " صفة لـ " خمر " وقرئ بالنصب على المفعول له ، وهي تؤيد المصدرية في قراءة العامة ، وبالرفع صفة لـ " أنهار " ، ولم تجمع لأنها مصدر إن قيل به ، وإن لا فلأنها صفة لجمع غير عاقل ، وهو يعامل معاملة المؤنثة الواحدة .

قوله : " من عسل " نقلوا في " عسل " التذكير والتأنيث ، وجاء القرآن على التذكير في قوله : " مصفى " . والعسلان : العدو . وأكثر استعماله في الذئب ، يقال : عسل الذئب والثعلب ، وأصله من عسلان الرمح وهو اهتزازه ، فكأن العادي يهز أعضاءه ويحركها قال الشاعر :


4058 - لدن بهز الكف يعسل متنه     فيه كما عسل الطريق الثعلب



وكني بالعسيلة عن الجماع لما بينهما . قال عليه السلام : " حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " . قوله : من كل الثمرات فيها وجهان ، أحدهما : أن هذا الجار صفة لمقدر ، ذلك المقدر مبتدأ ، وخبره الجار قبله وهو " لهم " . و " فيها " متعلق بما تعلق به . والتقدير : ولهم فيها زوجان من كل الثمرات ، كأنه انتزعه من قوله [ ص: 694 ] تعالى : فيهما من كل فاكهة زوجان وقدره بعضهم : صنف ، والأول أليق . والثاني : أن : " من " مزيدة في المبتدأ .

قوله : " ومغفرة " فيه وجهان ، أحدهما : أنه عطف على ذلك المقدر لا بقيد كونه في الجنة أي : ولهم مغفرة ، لأن المغفرة تكون قبل دخول الجنة أو بعيد ذلك . ولا بد من حذف مضاف حينئذ أي : ونعيم مغفرة ; لأنه ناشئ عن المغفرة ، وهو في الجنة .

والثاني : أن يجعل خبرها مقدرا أي : ولهم مغفرة . والجملة مستأنفة . والفرق بين الوجهين : أن الوجه الذي قبل هذا فيه الإخبار بـ " لهم " الملفوظ به عن سنن ذلك المحذوف ، و " مغفرة " ، وفي الوجه الآخر الخبر جار آخر ، حذف للدلالة عليه .

قوله : " كمن هو " قد تقدم أنه يجوز أن يكون خبرا عن " مثل الجنة " بالتأويلين المذكورين عن ابن عطية والزمخشري . وأما إذا لم نجعله خبرا عن " مثل " ففيه أربعة أوجه ، أحدها : أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : أحال هؤلاء المتقين كحال من هو خالد . وهذا تأويل صحيح . وذكر فيه أبو البقاء الأوجه الباقية وقال : " وهو في موضع رفع أي : حالهم كحال من هو خالد في النار .

وقيل : هو استهزاء بهم . وقيل : هو على معنى الاستفهام ، أي : أكمن هو خالد . وقيل : في موضع نصب أي : يشبهون حال من هو خالد في النار " انتهى . معنى قوله : " وقيل هو استهزاء " أي : أن الإخبار بقولك : حالهم كحال من ، على سبيل الاستهزاء والتهكم .

[ ص: 695 ] قوله : " وسقوا " عطف على الصلة ، عطف فعلية على اسمية ، لكنه راعى في الأول لفظ " من " فأفرد ، وفي الثانية معناها فجمع .

والأمعاء : جمع معى بالقصر ، وهو المصران الذي في البطن وقد وصف بالجمع في قوله :


4059 - ... ... ... ...      ... ... ... ... ومعى جياعا



على إرادة الجنس . وألفه عن ياء بدليل قولهم : معيان .

التالي السابق


الخدمات العلمية