صفحة جزء
آ . (90) قوله تعالى : كفرا : تمييز منقول من الفاعلية ، [ ص: 305 ] والأصل : ثم ازداد كفرهم ، والدال الأولى بدل من تاء الافتعال لوقوعها بعد الزاي ، كذا أعربه الشيخ ، وفيه نظر ، إذ المعنى على أنه مفعول به ، وذلك أن الفعل المتعدي لاثنين إذا جعل مطاوعا نقص مفعولا ، وهذا من ذاك ، لأن الأصل : زدت زيدا خيرا فازداده ، وكذلك أصل الآية الكريمة ، زادهم الله كفرا فازدادوه .

ولم يؤت هنا بالفاء داخلة على "لن " وأتى بها في "لن " الثانية . قيل : لأن الفاء مؤذنة بالاستحقاق بالوصف السابق ، لأنه قد صرح بقيد موتهم على الكفر بخلاف "لن " الأولى فإنه لم يصرح معها به ، فلذلك لم يؤت بالفاء .

وقرأ عكرمة : "لن نقبل " بنون العظمة ، "توبتهم " بالنصب ، فلذلك قرأ : "فلن نقبل من أحدهم ملء " بالنصب .

قوله : وأولئك هم الضالون في هذه الجملة ثلاثة أوجه ، أحدها : أن تكون في محل رفع عطفا على خبر إن ، أي : إن الذين كفروا لن تقبل توبتهم وإنهم أولئك هم الضالون . الثاني : أن تجعل معطوفة على الجملة المؤكدة بإن ، وحينئذ فلا محل لها من الإعراب لعطفها على ما لا محل له . الثالث : وهو أغربها أن تكون الواو للحال ، فالجملة بعدها نصب على الحال ، والمعنى : لن تقبل توبتهم من الذنوب والحال أنهم ضالون ، فالتوبة والضلال متنافيان لا يجتمعان ، قاله الراغب ، وهو بعيد في التركيب ، وإن كان قريب المعنى . قال الشيخ : "وينبو عن هذا المعنى هذا التركيب ، إذ لو أريد هذا المعنى لم يؤت باسم الإشارة " .

[ ص: 306 ] وقوله : فلن يقبل قد تقدم أن عكرمة [قرأ ] "نقبل " بالنون ، "ملء " بالنصب مفعولا به ، وقرأ بعضهم : فلن يقبل بالياء من تحت على بنائه للفاعل وهو الله تعالى ، و "ملء " بالنصب كما تقدم . وقرأ أبو جعفر وأبو السمال : "مل الأرض " بطرح همزة "ملء " ، نقل حركتها إلى الساكن قبلها ، وبعضهم يدغم نحو هذا ، أي : لام "ملء " في لام "الأرض " بعروض التقائهما .

والملء مقدار ما يملأ الوعاء ، والملء بفتح الميم هو المصدر . يقال : "ملأت القربة أملؤها ملئا " ، والملاءة الملحفة بضم الميم والمد .

و "ذهبا " العامة على نصبه تمييزا ، وقال الكسائي : "على إسقاط الخافض " وهذا كالأول ، لأن التمييز مقدر بـ "من " واحتاجت "ملء " إلى تفسير لإبهامها ، لأنها دالة على مقدار . كالقفيز والصاع . وقرأ الأعمش "ذهب " بالرفع ، قال الزمخشري : "ردا على ملء " كما يقال : "عندي عشرون نفسا رجال " يعني بالرد البدل ، ويكون بدل نكرة من معرفة ، قال الشيخ : "ولذلك ضبط الحذاق قوله " لك الحمد ملء السماوات "بالرفع ، على أنه نعت للحمد ، واستضعفوا نصبه على الحال لكونه معرفة " قلت : ولا يتعين نصبه على الحال حتى يلزم ما ذكره من الضعف ، بل هو منصوب على الظرف ، أي : إن الحمد يقع ملئا للسماوات وللأرض .

قوله : ولو افتدى الجمهور على ثبوت الواو وهي واو الحال ، قال الزمخشري : "فإن قلت : كيف موقع قوله : ولو افتدى به ؟ قلت : هو كلام [ ص: 307 ] محمول على المعنى كأنه قيل : فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض " . انتهى . والذي ينبغي أن يحمل عليه أن الله تعالى أخبر أن من مات كافرا لا يقبل منه ما يملأ الأرض من ذهب ، على كل حال يقصدها ولو في حال افتدائه من العذاب ، وذلك أن حالة الافتداء حالة لا يمتن فيها المفتدي على المفتدى منه إذ هي حالة قهر من المفتدى منه للمفتدي .

قال الشيخ : "وقد قررنا من نحو هذا التركيب أن " لو "تأتي منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء ، وما بعدها جاء تنصيصا على الحالة التي يظن أنها لا تندرج فيما قبلها ، كقوله عليه السلام : " أعطوا السائل ولو جاء على فرس "و " ردوا السائل ولو بظلف محرق " ، كأن هذه الأشياء كان مما ينبغي أن لا يؤتى بها ، لأن كون السائل على فرس يشعر بغناه فلا يناسب أن يعطى ، وكذلك الظلف المحرق لا غناء فيه ، فكان يناسب ألا يرد به السائل " .

وقيل : الواو هنا زائدة ، وقد يتأيد هذا بقراءة ابن أبي عبلة "لو افتدى به " دون واو ، ومعناها أنه جعل الافتداء شرطا في عدم القبول فلم يتعمم نفي وجود القبول . و "لو " قيل : هي هنا شرطية بمعنى إن ، لا التي معناها لما كان سيقع لوقوع غيره ، لأنها معلقة بمستقبل ، وهو قوله : فلن يقبل وتلك معلقة بالماضي .

وافتدى : افتعل من لفظ الفدية وهو متعد لواحد لأنه بمعنى فدى ، فيكون افتعل فيه وفعل بمعنى نحو : شوى واشتوى ، ومفعوله محذوف تقديره : افتدى نفسه .

[ ص: 308 ] والهاء في "به " فيها أقوال ، أظهرها : عودها على "ملء " لأنه مقدار ما يملؤها ، أي : ولو افتدى بملء الأرض . والثاني : أن يعود على "ذهبا " قاله أبو البقاء ، قال الشيخ : "ويوجد في بعض التفاسير أنها تعود على الملء أو على الذهب ، فقوله : " أو على الذهب "غلط " قلت : كأن وجه الغلط فيه أنه ليس محدثا عنه ، إنما جيء به بيانا وتفسيرا لغيره فضلة . الثالث : أن يعود على "مثل " محذوف ، قال الزمخشري : "ويجوز أن يراد " ولو افتدى بمثله "كقوله : لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه والمثل يحذف في كلامهم كثيرا ، كقولك "ضربت ضرب زيد " تريد مثل ضربه ، أبو يوسف أبو حنيفة "أي مثله ، و :


1356 - لا هيثم الليلة للمطي



و " قضية ولا أبا حسن لها "تريد : لا مثل هيثم ولا مثل أبي حسن ، كما أنه يزاد في قولهم : " مثلك لا يفعل كذا "يريدون : أنت لا تفعل ، وذلك أن المثلين يسد أحدهما مسد الآخر ، فكانا في حكم شيء واحد " . قال الشيخ : "ولا حاجة إلى تقدير " مثل "في قوله : ولو افتدى به ، وكأن الزمخشري تخيل أن ما نفي أن يقبل لا يمكن أن يفتدى به فاحتاج إلى إضمار " مثل "حتى يغاير بين ما نفي قبوله وبين ما يفتدى به ، وليس كذلك ؛ لأن ذلك كما ذكرناه على سبيل الفرض والتقدير ، إذ لا يمكن عادة أن أحدا يملك ملء الأرض ذهبا ، بحيث إنه لو بذله على أي جهة بذله لم يقبل منه ، بل لو كان ذلك ممكنا لم يحتج [ ص: 309 ] إلى تقدير " مثل "لأنه نفي قبوله حتى في حالة الافتداء ، وليس ما قدر في الآية نظير ما مثل به ، لأن هذا التقدير لا يحتاج إليه ولا معنى له ، ولا في اللفظ ولا في المعنى ما يدل عليه فلا يقدر ، وأما ما مثل به من نحو : ضربت ضرب زيد ، وأبو يوسف وأبو حنيفة " فبضرورة العقل نعلم أنه لا بد من تقدير "مثل " ، إذ ضربك يستحيل أن يكون ضرب زيد ، وذات أبي يوسف يستحيل أن تكون ذات أبي حنيفة ، وأما "لا هيثم الليلة للمطي " فدل على حذف "مثل " ما تقرر في اللغة العربية أن "لا " التي لنفي الجنس لا تدخل على الأعلام فتؤثر فيها فاحتيج إلى إضمار "مثل " لتبقى على ما تقرر فيها إذ تقرر فيها أنها لا تعمل إلا في الجنس ، لأن العلمية تنافي عموم الجنس ، وأما قوله "كما يزاد في نحو : " مثلك لا يفعل "تريد أنت " فهذا قول قد قيل [به ] ، ولكن المختار عند حذاق النحويين "أن الأسماء لا تزاد " . قلت : وهذا الاعتراض على طوله جوابه ما قاله أبو القاسم في خطبة كشافه : "فاللغوي وإن علك اللغة بلحييه والنحوي وإن كان أنحى من سيبويه إلى آخره " .

قوله : أولئك لهم عذاب أليم يجوز أن يكون "لهم " خبرا لاسم الإشارة ، و "عذاب " فاعل به ، وعمل لاعتماده على ذي خبر ، أي : أولئك استقر لهم عذاب ، وأن يكون "لهم " خبرا مقدما ، و "عذاب " مبتدأ مؤخرا ، والجملة خبر عن اسم الإشارة ، والأول أحسن ، لأن الإخبار بالمفرد أقرب من الإخبار بالجملة ، والأول من قبيل الإخبار بالمفرد .

قوله : وما لهم من ناصرين يجوز أن يكون "من ناصرين " فاعلا ، وجاز [ ص: 310 ] عمل الجار لاعتماده على حرف النفي أي : وما استقر لهم من ناصرين . والثاني : أنه خبر مقدم و "من ناصرين " مبتدأ مؤخر ، و "من " مزيدة على الإعرابين لوجود الشرطين في زيادتها . وأتى بناصرين جمعا لتوافق الفواصل .

التالي السابق


الخدمات العلمية