صفحة جزء
[ ص: 314 ] آ . (96) قوله تعالى : وضع للناس : هذه الجملة في موضع خفض صفة لبيت . وقرأ العامة : "وضع " مبنيا للمفعول ، وعكرمة وابن السميفع : "وضع " مبنيا للفاعل ، وفي فاعله قولان ، أظهرهما ، أنه ضمير إبراهيم لتقدم ذكره ، ولأنه مشهور بعمارته ، والثاني : أنه ضمير الباري تعالى . و "للناس " متعلق بالفعل قبله ، واللام فيه للعلة ، و " للذي ببكة " خبر إن ، وأخبر هنا بالمعرفة وهو الموصول عن النكرة وهو " أول بيت " لتخصيص النكرة بشيئين : الإضافة والوصف بالجملة بعده ، وهو جائز في باب إن ، ومن عبارة سيبويه : "إن قريبا منك زيد " لما تخصص "قريبا " بوصفه بالجار بعده ساغ ما ذكرته لك ، وزاده حسنا هنا كونه اسما لـ "إن " ، وقد جاءت النكرة اسما لإن وإن لم يكن تخصيص . قال :


1357 - وإن حراما أن أسب مجاشعا بآبائي الشم الكرام الخضارم



و "ببكة " صلة ، والباء فيه ظرفية أي : في مكة ، وبكة فيها أوجه ، أحدها أنها مرادفة لمكة فأبدلت ميمها باء ، قالوا : والعرب تعاقب بين الباء والميم في مواضع ، قالوا : هذا علي ضربة لازم ولازب ، وهذا أمر راتب وراتم ، والنميط والنبيط ، وسبد رأسه وسمدها ، وأعبطت الحمى وأعمطت ، [ ص: 315 ] وقيل : اسم لبطن مكة ، وقيل : لمكان البيت ، وقيل : للمسجد نفسه ، وأيدوا هذا بأن التباك وهو الازدحام إنما يحصل عند الطواف ، يقال : تباك الناس أي : ازدحموا . وهذا القول يفسده أن يكون الشيء ظرفا لنفسه ، كذا قال بعضهم ، وهو فاسد لأن البيت في المسجد حقيقة ، وسميت بكة ، لازدحام الناس ، وقيل : لأنها تبك أعناق الجبابرة ، أي تدقها ، وسميت مكة من قولهم : "تمككت المخ من العظم " إذ استقصيته ولم تترك منه شيئا ، ومنه "امتك الفصيل ما في ضرع أمه " إذا لم يترك فيه لبنا ، وروي أنه قال : "لا تمككوا على غرمائكم " .

ثم في تسميتها بذلك أوجه ، فقال ابن الأنباري : "سميت بذلك لقلة مائها وزرعها وقلة خصبها ، فهي مأخوذة من " مككت العظم "إذا لم تترك فيه شيئا . وقيل : لأن من ظلم فيها مكه الله أي استقصاه بالهلاك . وقيل : لأنها وسط الأرض كالمخ وسط العظم ، وهذا قول الخليل بن أحمد ، وهو حسن . والمكوك كأس يشرب به ويكال به كالصواع .

قوله : مباركا وهدى حالان : إما من المضمر في " وضع "كذا أعربه أبو البقاء وغيره ، وفيه نظر ، من حيث إنه يلزم الفصل بين الحال وبين العامل فيها بأجنبي ، وهو خبر إن ، وذلك غير جائز لأن الخبر معمول لإن ، فإن أضمرت عاملا وهو " وضع "بعد " للذي ببكة "أي و " وضع "جاز ، والذي حمل على ذلك ما يعطيه تفسير أمير المؤمنين من أنه وضع بهذا القيد .

[ ص: 316 ] والظاهر أن " وهدى " نسق على " مباركا " . وزعم بعضهم أنه خبر مبتدأ مضمر تقديره : وهو هدى ، وهو ساقط الاعتبار به .

والبركة : الزيادة ، يقال : بارك الله لك أي : زادك خيرا ، وهو متعد ، ويدل عليه : أن بورك من ويضمن معنى [ما يتعدى ] بعلى كقوله : وباركنا عليه . و " تبارك " لا سوء ولا يستعمل مسندا إلا لله تعالى ، ومعناه في حقه تعالى : تزايد خيره وإحسانه ، وقيل : البركة ثبوت الخير ، مأخوذ من مبرك البعير . وإما من الضمير المستكن في الجار ، وهو " ببكة " لوقوعه صلة ، والعامل فيها الجار بما تضمنه من الاستقرار أو العامل في الجار ، ويجوز أن ينتصب على إضمار فعل المدح أو على الاختصاص ، ولا يضر كونه نكرة ، وقد تقدم دلائل ذلك . و " للعالمين " كقوله : للمتقين أول البقرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية