صفحة جزء
آ . (97) قوله تعالى : فيه آيات : يجوز أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال : إما من ضمير "وضع " ، وفيه ما تقدم من الإشكال ، وإما من الضمير في "ببكة " وهو واضح ، وهذا على رأي من يجيز تعدد الحال لذي حال واحد ، وإما من الضمير في "للعالمين " ، وإما من "هدى " ، وجاز ذلك لتخصصه بالوصف ، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في "مباركا " . ويجوز أن تكون الجملة في محل نصب نعتا لهدى بعد نعته بالجار قبله ، [ ص: 317 ] ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب ، وإنما جيء بها بيانا وتفسيرا لبركته وهداه ، ويجوز أن تكون الحال أو الوصف على ما مر تفصيله هو الجار والمجرور فقط ، و "آيات " مرفوع بها على سبيل الفاعلية ، لأن الجار متى اعتمد على أشياء ذكرتها في أول هذا الموضوع رفع الفاعل ، وهذا أرجح من جعلها جملة من مبتدأ وخبر ، لأن هذه الأشياء - أعني الحال والنعت والخبر - أصلها أن تكون مفردة فما قرب منها كان أولى ، والجار قريب من المفرد ، ولذلك تقدم المفرد ثم الظرف ثم الجملة فيما ذكرت ، وعليه الآية الكريمة : وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه فقدم الوصف بالمفرد وهو "مؤمن " ، وثنى بما قرب منه وهو " من آل فرعون " ، وثلث بالجملة وهي " يكتم إيمانه " ، وقد جاء في الظاهر عكس هذا ، وسأوضح هذه المسألة إن شاء الله عند قوله : يحبهم ويحبونه أذلة .

قوله : مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا فيه أوجه ، أحدها أن "مقام " بدل من "آيات " ، وعلى هذا يقال : إن النحويين نصوا على أنه متى ذكر جمع لا يبدل منه إلا ما يوفي بالجمع فتقول : "مررت برجال زيد وعمرو وبكر " لأن أقل الجمع الصحيح ثلاثة ، فإن لم يوف قالوا : وجب القطع عن البدلية : إما إلى النصب بإضمار فعل ، وإما إلى الرفع على مبتدأ محذوف الخبر ، كما تقول في المثال المتقدم : "زيدا وعمرا " أي أعني زيدا وعمرا ، أو "زيد وعمرو " أي : منهم زيد وعمرو ، ولذلك أعربوا قول النابغة الذبياني :


1358 - توهمت آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع [ ص: 318 ]     رماد ككحل العين لأيا أبينه
ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع



على القطع المتقدم ، أي : فمنها رماد ونؤي ، وكذا قوله تعالى : حديث الجنود فرعون وثمود أي : أعني أو أذم فرعون وثمود ، على أنه قد يقال : إن المراد بفرعون وثمود هما ومن تبعهما من قومهما ، فذكرهما واف بالجمعية ، وفي الآية الكريمة هنا لم يذكر بعد الآيات إلا شيئان : المقام وأمن داخله ، فكيف يكون بدلا ؟ وهذا الإشكال أيضا وارد على قول من جعله خبر مبتدأ محذوف أي : هي مقام إبراهيم كيف يخبر عن الجمع باثنين ؟ .

وفيه أجوبة ، أحدها : أن أقل الجمع اثنان كما ذهب إليه بعضهم ، قال الزمخشري : "ويجوز أن يراد : فيه آيات : مقام إبراهيم وأمن من دخله ، لأن الاثنين نوع من الجمع كالثلاثة والأربعة " . الثاني : أن "مقام إبراهيم " وإن كان مفردا لفظا إلا أنه يشتمل على آيات كثيرة ، لأن أثر القدمين في الصخرة الصماء آية ، وغوصهما فيها إلى الكعبين آية ، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية ، وإبقاؤه على مر الزمان ، وحفظه من الأعداء آية ، واستمراره دون آيات سائر الأنبياء - خلا نبينا صلى الله عليه وعلى سائرهم - آية ، قال معناه الزمخشري . الثالث : أن يكون هذا من باب الطي ، وهو أن يذكر جمع ثم يؤتى ببعضه ويسكت على ذكر باقيه لغرض للمتكلم ويسمى طيا ، وأنشد الزمخشري عليه قول جرير :

[ ص: 319 ]

1359 - كانت حنيفة أثلاثا فثلثهم     من العبيد وثلث من مواليها



وأورد منه قوله عليه الصلاة والسلام : " حبب إلي من دنياكم ثلاث : الطيب والنساء ، وقرة عيني في الصلاة " ذكر اثنين وهما الطيب والنساء ، وطوى ذكر الثالثة ، لا يقال : إن الثالثة قوله : "وقرة عيني في الصلاة " لأنها ليست من دنياهم ، إنما هي من الأمور الأخروية ، وفائدة الطي عندهم تكثير ذلك الشيء ، كأنه تعالى لما ذكر من جملة الآيات هاتين الآيتين قال : وكثير سواهما . وقال ابن عطية : "والأرجح عندي أن المقام وأمن الداخل جعلا مثالا مما في حرم الله تعالى من الآيات ، وخصا بالذكر لعظمهما وأنهما تقوم بهما الحجة على الكفار ، إذ هم مدركون لهاتين الآيتين بحواسهم " .

الوجه الثاني : أن يكون " مقام إبراهيم " عطف بيان ، قاله الزمخشري ورد عليه الشيخ هذا من جهة تخالفهما تعريفا وتنكيرا فقال : "قوله مخالف لإجماع البصريين والكوفيين فلا يلتفت إليه ، وحكم عطف البيان عند الكوفيين حكم النعت فيتبعون النكرة النكرة والمعرفة المعرفة ، وتبعهم في ذلك أبو علي الفارسي ، وأما البصريون فلا يجوز عندهم إلا أن يكونا معرفتين ، ولا يجوز أن يكونا نكرتين ، وكل شيء أورده الكوفيون مما يوهم جواز كونه عطفا جعله البصريون بدلا ، ولم يقم دليل للكوفيين " . قلت : وهذه المسألة ستأتي إن شاء [ ص: 320 ] الله محررة عند قوله تعالى : من ماء صديد وعند قوله تعالى : من شجرة مباركة زيتونة .

ولما أعرب الزمخشري مقام إبراهيم وأمن داخله بالتأويل المذكور اعترض على نفسه بما ذكرته من إبدال غير الجمع من الجمع ، وأجاب بما تقدم ، واعترض أيضا على نفسه ، بأنه كيف تكون الجملة عطف بيان للأسماء المفردة ؟ فقال : "فإن قلت : كيف أجزت أن يكون مقام إبراهيم والأمن عطف بيان ، وقوله ومن دخله كان آمنا جملة مستأنفة : إما ابتدائية وإما شرطية ؟ قلت : أجزت ذلك من حيث المعنى ، لأن قوله ومن دخله كان آمنا دل على أمن من دخله ، فكأنه قيل : "فيه آيات بينات : مقام إبراهيم وأمن من دخله " ألا ترى أنك لو قلت : "فيه آية بينة : من دخله كان آمنا " صح ، لأن المعنى : فيه آية بينة أمن من دخله " . قال الشيخ : " وليس بواضح لأن تقديره وأمن الداخل هو مرفوع عطفا على "مقام إبراهيم " وفسر بهما الآيات ، والجملة من قوله : ومن دخله كان آمنا لا موضع لها من الإعراب فتدافعا ، إلا إن اعتقد أن ذلك معطوف محذوف يدل عليه ما بعده ، فيمكن التوجيه ، فلا يجعل قوله ومن دخله كان آمنا في معنى "وأمن داخله " إلا من حيث تفسير المعنى لا تفسير الإعراب "وهي مشاحة لا طائل تحتها ، ولا تدافع فيما ذكر ، لأن الجملة متى كانت في تأويل المفرد صح عطفها عليه ، ثم المختار أن يكون قوله " مقام إبراهيم "خبر مبتدأ مضمر ، لا كما قدروه حتى يلزم الإشكال المتقدم ، بل تقدره : أحدها مقام إبراهيم ، وهذا هو الوجه [ ص: 321 ] الثالث . و " من "يجوز أن تكون شرطية وأن تكون موصولة ، ولا يخفى الكلام عليهما مما تقدم .

وقرأ أبي وعمر وابن عباس وأبو جعفر ومجاهد : " آية بينة "بالتوحيد ، وتخريج " مقام "على الأوجه المتقدمة سهل : من كونها بدلا أو بيانا عند الزمخشري ، أو خبر مبتدأ محذوف ، وهذا البدل متفق عليه ؛ لأن البصريين يبدلون من النكرة مطلقا ، والكوفيون لا يبدلون منها إلا بشرط وصفها وقد وصفت .

قوله : من استطاع فيه ستة أوجه ، أحدها أن " من "بدل من " الناس "بدل بعض من كل ، وبدل البعض وبدل الاشتمال لا بد في كل منهما من ضمير يعود على المبدل منه نحو : أكلت الرغيف ثلثه ، وسلب زيد ثوبه ، وهنا ليس ضمير ، فقيل : هو محذوف تقديره : من استطاع منهم . الثاني : أنه بدل كل من كل ، إذ المراد بالناس المذكورين خاص ، والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أن الذي قبله يقال فيه : عام مخصوص ، وهذا يقال فيه : عام أريد به الخاص ، وهو فرق واضح ، وهاتان العبارتان مأخوذتان من عبارة الإمام الشافعي رضي الله عنه . الثالث : أنها خبر مبتدأ مضمر تقديره : هو من استطاع . الرابع : أنها مصدرية بإضمار فعل أي : أعني من استطاع ، وهذان الوجهان في الحقيقة مأخوذان من وجه البدل ، فإن كل ما جاز إبداله مما قبله جاز قطعه إلى الرفع أو النصب المذكورين آنفا . الخامس : أن " من "فاعل بالمصدر وهو " حج "والمصدر مضاف لمفعوله ، والتقدير : ولله على الناس أن [ ص: 322 ] يحج من استطاع منهم سبيلا البيت ، وهذا الوجه قد رده جماعة من حيث الصناعة ومن حيث المعنى : أما من حيث الصناعة فلأنه إذا اجتمع فاعل ومفعول مع المصدر العامل فيهما فإنما يضاف المصدر لمرفوعه دون منصوبه فيقال : يعجبني ضرب زيد عمرا ، ولو قلت : " ضرب عمرو زيد "لم يجز إلا في ضرورة كقوله :


1360 - أفنى تلادي وما جمعت من نشب     قرع القواقيز أفواه الأباريق



يروى بنصب "أفواه " على إضافة المصدر وهو "قرع " إلى فاعله ، وبالرفع على إضافته إلى مفعوله ، وقد جوزه بعضهم في الكلام على ضعف ، والقرآن لا يحمل على ما في الضرورة ولا على ما فيه ضعف . وأما من حيث المعنى فلأنه يؤدي إلى تكليف الناس جميعهم مستطيعهم وغير مستطيعهم أن يحج مستطيعهم ، فيلزم من ذلك تكليف غير المستطيع بأن يحج المستطيع وهو غير جائز ، وقد التزم بعضهم هذا ، وقال : نعم نقول بموجبه ، وأن الله تعالى كلف الناس ذلك ، حتى لو لم يحج المستطيعون لزم غير المستطيعين أن يأمروهم بالحج حسب الإمكان ؛ لأن إحجاج الناس إلى الكعبة وعرفة فرض واجب . و "من " على الأوجه الخمسة موصولة بمعنى الذي . السادس : أنها شرطية والجزاء محذوف يدل عليه ما تقدم أو هو نفس المتقدم على رأي ، ولا بد من ضمير يعود من جملة الشرط على الناس [ ص: 323 ] تقديره : من استطاع منهم إليه سبيلا فلله عليه أن يحج ، ويترجح هذا بمقابلته بالشرط بعده وهو قوله : ومن كفر فإن الله غني عن العالمين .

وقوله : ولله على الناس حج البيت جملة من مبتدأ وخبر وهو قوله "لله " ، و "على الناس " متعلق بما تعلق [به ] الخبر أو متعلق بمحذوف على أنه حال من الضمير المستكن في الجار ، والعامل فيه أيضا ذلك الاستقرار المحذوف ، ويجوز أن يكون "على الناس " هو الخبر ، و "لله " متعلق بما تعلق به الخبر ، ويمتنع فيه أن يكون حالا من الضمير في "على الناس " وإن كان العكس جائزا كما تقدم ، والفرق أنه يلزم هنا تقديم الحال على العامل المعنوي ، والحال لا تتقدم على العامل المعنوي بخلاف الظرف وحرف الجر فإنهما يتقدمان على عاملهما المعنوي للاتساع فيهما ، وقد تقدم أن الشيخ جمال الدين بن مالك يجوز تقديمها على العامل المعنوي إذا كانت هي ظرفا أو حرف جر والعامل كذلك ، ومسألتنا في الآية الكريمة من هذا القبيل .

وقرأ الأخوان وحفص عن عاصم : "حج " بكسر الحاء ، والباقون بفتحها ، فقيل : لغتان بمعنى ، والكسر لغة نجد والفتح لغة أهل العالية ، وفرق سيبويه فجعل المكسور مصدرا أو اسما للعمل ، وأما المفتوح فمصدر فقط . وقد تقدم في البقرة أنه قرئ في الشاذ بكسر الحاء ، وتكلمت هناك على هاتين اللفظتين وما ذكر الناس فيهما واشتقاق المادة فأغنى عن إعادته ولله الحمد والمنة .

وقد جيء في هذه الآية بمبالغات كثيرة منها قوله : ولله على الناس [ ص: 324 ] حج البيت يعني أنه حق واجب عليهم لله في زمانهم لا ينفكون عن أدائه والخروج عن عهدته . ومنها أنه ذكر "الناس " ثم أبدل منهم من استطاع إليه سبيلا وفيه ضربان من التأكيد ، أحدهما : أن الإبدال تثنية المراد وتكرير له ، والثاني : أن التفصيل بعد الإجمال والإيضاح بعد الإبهام إيراد في صورتين مختلفتين ، قاله الزمخشري على عادة فصاحته وتخليصه المعنى بأقرب لفظ .

والألف واللام في "البيت " للعهد لتقدم ذكره ، وهو علم بالغلبة كالثريا والصعق ، فإذا قيل "زار البيت " لم يتبادر الذهن إلا إلى الكعبة شرفها الله تعالى ، وقال الشاعر :


1361 - لعمري لأنت البيت أكرم أهله     وأقعد في أفنائه بالأصائل



أنشد الشيخ هذا البيت في هذا المعرض وفيه نظر ، إذ ليس في الظاهر الكعبة . والضمير في "إليه " الظاهر عوده على الحج لأنه محدث عنه ، والثاني : عوده على البيت "وإليه " متعلق باستطاع ، و "سبيلا " مفعول به لأن "استطاع " متعد ، قال : لا يستطيعون نصركم إلى غيره من الآيات .

قوله : ومن كفر يجوز أن تكون الشرطية وهو الظاهر ، ويجوز أن تكون الموصولة ، ودخلت الفاء شبها للموصول باسم الشرط وقد تقدم تقريره غير مرة ، ولا يخفى حال الجملتين بعدها بالاعتبارين المذكورين . ولا بد من رابط بين [ ص: 325 ] الشرط وجزائه أو المبتدأ وخبره ، ومن جوز إقامة الظاهر مقام المضمر اكتفى بذلك في قوله : فإن الله غني عن العالمين كأنه قال : غني عنهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية