صفحة جزء
آ . (103) قوله تعالى : بحبل : الحبل في الأصل هو السبب ، وكل ما وصلك إلى شيء فهو حبل ، وأصله في الأجرام واستعماله في المعاني من باب المجاز ، ويجوز أن يكون حينئذ من باب الاستعارة ، ويجوز أن يكون من باب التمثيل ، ومن كلام الأنصار رضي الله عنهم : " يا رسول الله إن بيننا وبين القوم حبالا ونحن قاطعوها " - يعنون العهود والحلف - . قال الأعشى :


1371 - وإذا تجوزها حبال قبيلة أخذت من الأخرى إليك حبالها



يعني العهود ، قيل : والسبب فيه أن الرجل كان إذا سافر خاف فيأخذ من القبيلة عهدا إلى أخرى ، ويعطى سهما أو حبلا يكون معه كالعلامة ، فسمي العهد حبلا لذلك ، وهذا معنى غير طائل ، بل سمي العهد حبلا للتوصل به إلى الغرض . وقال آخر :


1372 - ما زلت معتصما بحبل منكم      ... ... ... ...



والمراد بالحبل هنا القرآن ، وفي الحديث الطويل : "هو حبل الله المتين " .

[ ص: 333 ] وقوله : "جميعا " حال من فاعل "اعتصموا " ، و " بحبل الله " متعلق به . قوله : " ولا تفرقوا " قرأه البزي بتشديد التاء وصلا ، وقد تقدم توجيهه في البقرة عند قوله : ولا تيمموا ، والباقون بتخفيفها على الحذف .

وقوله :" نعمة الله" مصدر مضاف لفاعله إذ هو المنعم ، و "عليكم " يجوز أن يكون متعلقا بنفس "نعمة " لأن هذه المادة تتعدى بـ "على " [نحو : ] للذي أنعم الله عليه ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف على أنه حال من "نعمة " فيتعلق بمحذوف أي : مستقرة وكائنة عليكم .

قوله : إذ كنتم "إذ " منصوبة بنعمة ظرفا لها ، ويجوز أن يكون متعلقا بالاستقرار الذي تضمنه "عليكم " إذا قلنا : إن "عليكم " حال من النعمة ، وأما إذا علقنا "عليكم " بنعمة تعين الوجه الأول . وجوز الحوفي أن يكون منصوبا باذكروا ، يعني مفعولا به لا أنه ظرف له لفساد المعنى ، إذ "اذكروا " مستقبل ، و "إذ " ماض .

قوله : فأصبحتم أصبح من أخوات "كان " فإذا كانت ناقصة كانت مثل "كان " في رفع الاسم ونصب الخبر ، وإذا كانت تامة رفعت فاعلا واستغنت به ، فإن وجد منصوب بعدها فهي حال ، وتكون تامة إذا كانت بمعنى دخل في الصباح تقول : "أصبح زيد " أي دخل في الصباح ، ومثلها في ذلك "أمسى " ، قال تعالى : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وقوله : وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وفي أمثالهم : "إذا سمعت بسرى القين فاعلم [ ص: 334 ] أنه مصبح " لأن القين - وهو الحداد - ربما قلت صناعته في أحياء العرب فيقول : أنا غدا مسافر ليأتوه الناس بحوائجهم فيقيم ويترك السفر ، فأخرجوه مثلا لمن يقول قولا ويخالفه ، فالمعنى أنه مقيم في الصباح ، وتكون بمعنى "صار " عملا ومعنى كقوله :


1373 - فأصبحوا كأنهم ورق جف     ف فألوت به الصبا والدبور



أي : صاروا . و " إخوانا " خبرها ، وجوزوا فيها هنا أن تكون على بابها من دلالتها على اتصاف الموصوف بالصفة في وقت الصباح ، وأن تكون بمعنى صار ، وأن تكون التامة ، أي : دخلتم في الصباح ، فإذا كانت ناقصة على بابها فالأظهر أن يكون "إخوانا " خبرها .

و "بنعمته " متعلق بـ "إخوانا " ، لما فيه من معنى الفعل أي : تآخيتم بنعمته ، والباء للسببية . وجوز الشيخ أن يتعلق بأصبحتم ، وقد عرفت ما فيه من الخلاف ، وجوز غيره أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من فاعل "أصبحتم " أي : فأصبحتم إخوانا ملتبسين بنعمته ، أو حال من "إخوانا " لأنه في الأصل صفة له . وجوزوا أن يكون "بنعمته " هو الخبر ، و "إخوانا " حال ، والباء بمعنى الظرفية ، وإذا كانت بمعنى "صار " جرى فيها ما تقدم من جميع هذه الأوجه ، وإذا كانت تامة فإخوانا حال ، و "بنعمته " فيه ما تقدم من الأوجه خلا الخبرية .

[ ص: 335 ] قال ابن عطية : " فأصبحتم " عبارة عن الاستمرار ، وإن كانت اللفظة مخصوصة بوقت ، وإنما خصت هذه اللفظة بهذا المعنى من حيث هي مبدأ النهار ، وفيها مبدأ الأعمال ، فالحال التي يحسها المرء من نفسه فيها هي التي يستمر عليها يومه في الأغلب ، ومنه قول الربيع بن ضبع :


1374 - أصبحت لا أحمل السلاح ولا     أملك رأس البعير إن نفرا



قال الشيخ : "وهذا الذي ذكره من أن " أصبح "للاستمرار ، وعلله بما ذكره لم أر أحدا من النحويين ذهب إليه ، إنما ذكروا أنها تستعمل بالوجهين اللذين ذكرناهما " قلت : وهذا الذي ذكره ابن عطية معنى حسن ، وإذا لم ينص عليه النحويون لا يدفع ، لأن النحاة غالبا إنما يتحدثون بما يتعلق بالألفاظ ، وأما المعاني المفهومة من فحوى الكلام فلا حاجة لهم بالكلام عليها غالبا .

والإخوان : جمع أخ ، وإخوة اسم جمع عند سيبويه وعند غيره هي جمع . وقال بعضهم : "إن الأخ في النسب يجمع على " إخوة " ، وفي الدين على " إخوان " ، هذا أغلب استعمالهم ، قال تعالى : إنما المؤمنون إخوة ، ونفس هذه الآية تؤيد ما قاله لأن المراد هنا ليس إخوة النسب إنما المراد إخوة الدين والصداقة ، قال أبو حاتم : " ثم قال أهل البصرة : الإخوة في النسب والإخوان في الصداقة "قال : " وهذا غلط ، يقال للأصدقاء والأنسباء [ ص: 336 ] إخوة وإخوان ، قال تعالى : إنما المؤمنون إخوة لم يعن النسب ، وقال تعالى : أو بيوت إخوانكم وهذا في النسب "قلت : رد أبي حاتم يتجه على هذا النقل المطلق ، ولا يرد على النقل الأول لأنهم قيدوه بالأغلب في الاستعمال .

قوله : على شفا شفا الشيء : طرفه وحرفه ، وهو مقصور من ذوات الواو ، يثنى بالواو نحو : شفوين ، ويكتب بالألف ، ويجمع على أشفاء ، ويستعمل مضافا إلى أعلى الشيء وإلى أسفله ، فمن الأول : شفا جرف ومن الثاني هذه الآية ، وأشفى على كذا أي : قاربه ، ومنه أشفى المريض على الموت ، قال يعقوب : "يقال للرجل عند موته ، وللقمر عند محاقه ، وللشمس عند غروبها : " ما بقي منه - أو منها - إلا شفا "أي : إلا قليل " . وقال بعضهم : يقال لما بين الليل والنهار عند غروب الشمس إذا غاب بعضها : شفا ، وأنشد :


1375 - أدركته بلا شفا أو بشفا     والشمس قد كادت تكون دنفا



وقال الراغب : "والشفاء من المرض موافاة شفا السلامة ، وصار اسما للبرء ، والشفا مذكر " .

وأما عود الضمير في "منها " ففيه أوجه ، أحدها : أنه عائد على "حفرة " .

[ ص: 337 ] والثاني : أنه عائد على "النار " قال الطبري : "إن بعض الناس يعيده على الشفا ، وأنث من حيث كان الشفا مضافا إلى مؤنث ، كما قال جرير :


1376 - أرى مر السنين أخذن مني     كما أخذ السرار من الهلال



قال ابن عطية : " وليس الأمر كما ذكروا ، لأنه لا يحتاج في الآية إلى مثل هذه الصناعة ، إلا لو لم نجد للضمير معادا إلا الشفا ، أما ومعنا لفظ مؤنث يعود الضمير عليه ويعضده المعنى المتكلم فيه فلا يحتاج إلى تلك الصناعة "قال الشيخ : " وأقول : لا يحسن عوده إلا على الشفا ؛ لأن كينونتهم على الشفا هو أحد جزأي الإسناد ، فالضمير لا يعود إلا عليه ، وأما ذكر الحفرة فإنما جاءت على سبيل الإضافة إليها ، ألا ترى أنك إذا قلت : "كان زيد غلام جعفر " لم يكن جعفر محدثا عنه ، وليس أحد جزأي الإسناد ، وكذا لو قلت : "زيد ضرب غلام هند " لم تحدث عن هند بشيء ، وإنما ذكرت جعفرا وهندا مخصصا للمحدث عنه ، وأما ذكر النار فإنما ذكر لتخصيص الحفرة ، وليست أيضا أحد جزأي الإسناد ، وليست أيضا محدثا عنها ، فالإنقاذ من الشفا أبلغ من الإنقاذ من الحفرة ومن النار ، لأن الإنقاذ من الشفا [يستلزم الإنقاذ من الحفرة ومن النار ، والإنقاذ منهما لا يستلزم الإنقاذ من الشفا ] فعوده على الشفا هو الظاهر من حيث اللفظ ومن حيث المعنى " .

[ ص: 338 ] وقال الزجاج : " وقوله : "منها " الكناية راجعة إلى النار لا إلى الشفا ؛ لأن القصد الإنجاء من النار لا من شفا الحفرة " . وقال غيره : " يعود على الحفرة ، فإذا أنقذهم الله من الحفرة فقد أنقذهم من شفاها لأن شفاها منها " . قال الواحدي : "على أنه يجوز أن يذكر المضاف والمضاف إليه ثم تعود الكناية إلى المضاف إليه دون المضاف ، كقول جرير : "

أرى مر السنين أخذن

"البيت . فذكر مر السنين ، ثم أخبر عن السنين ، وكذلك قول العجاج :


1377 - طول الليالي أسرعت في نقضي     طوين طولي وطوين عرضي



قال : " وهذا إذا كان المضاف من جنس المضاف إليه ، فإن مر السنين هو السنون ، وكذلك شفا الحفرة من الحفرة ، فذكر الشفا وعادت الكناية إلى الحفرة "قلت : وهذان القولان نص في رد ما قاله الشيخ ، إلا أن المعنى الذي ذكره أولى ، لأنه إذا أنقذهم من طرف الحفرة فهو أبلغ من إنقاذهم من الحفرة ، وما ذكره من الصناعة أيضا واضح .

والإنقاذ : التخليص والتنحية ، قال الأزهري : " يقال أنقذته ونقذته واستنقذته وتنقذته بمعنى ، ويقال : "فرس نقيذ " إذا كان مأخوذا من قوم آخرين لأنه استنقذ منهم ، والحفرة : فعلة بمعنى مفعولة كغرفة بمعنى مغروفة .

وقوله : كذلك يبين الله نعت لمصدر محذوف أو حال من ضميره أي : [ ص: 339 ] يبين لكم تبيينا مثل تبيينه لكم الآيات الواضحة . وقوله : من النار صفة لحفرة فيتعلق بمحذوف .

التالي السابق


الخدمات العلمية