صفحة جزء
آ . (110) قوله تعالى : كنتم خير أمة : في "كان " هذه ستة أقوال ، أحدها : أنها ناقصة على بابها ، وإذا كانت كذلك فلا دلالة على مضي وانقطاع ، بل تصلح للانقطاع نحو : "كان زيد قائما " وتصلح للدوام نحو : وكان الله غفورا رحيما ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة ، فهي هنا بمنزلة "لم يزل " وهذا بحسب القرائن .

[ ص: 348 ] وقال الزمخشري : "كان " عبارة عن وجود الشيء في زمن ماض على سبيل الإبهام ، وليس فيه دليل على عدم سابق ولا على انقطاع طارئ ، ومنه قوله تعالى : وكان الله غفورا رحيما وقوله : كنتم خير أمة كأنه قيل : "وجدتم خير أمة " . قال الشيخ : قوله "لم تدل على عدم سابق " هذا إذا لم تكن بمعنى "صار " فإذا كانت بمعنى "صار " دلت على عدم سابق ، فإذا قلت : "كان زيد عالما " بمعنى "صار زيد عالما " دلت على أنه انتقل من حالة الجهل إلى حالة العلم ، وقوله : "ولا على انقطاع طارئ " قد ذكرنا قبل أن الصحيح أنها كسائر الأفعال يدل لفظ المضي منها على الانقطاع ، ثم قد تستعمل حيث لا انقطاع ، وفرق بين الدلالة والاستعمال ، ألا ترى أنك تقول : "هذا اللفظ يدل على العموم " ثم قد يستعمل حيث لا يراد العموم بل يراد الخصوص . وقوله : "كأنه قيل وجدتم خير أمة " هذا يعارض قوله "إنها مثل قوله : وكان الله غفورا رحيما لأن تقديره " وجدتم خير أمة "يدل على أنها التامة وأن " خير أمة "حال . وقوله : وكان الله غفورا رحيما لا شك أنها هنا الناقصة فتعارضا " قلت : لا تعارض لأن هذا تفسير معنى لا تفسير إعراب .

الثاني : أنها بمعنى "صرتم " و "كان " تأتي بمعنى "صار " كثيرا كقوله :


1385 - بتيهاء قفر والمطي كأنها قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها



أي : صارت فراخا .

الثالث : أنها تامة بمعنى وجدتم ، و "خير أمة " على هذا منصوب على الحال أي : وجدتم في هذه الحال .

[ ص: 349 ] الرابع : أنها زائدة ، والتقدير : أنتم خير أمة ، وهذا قول مرجوح أو غلط لوجهين ، أحدهما : أنها لا تزاد أولا ، وقد نقل ابن مالك الاتفاق على ذلك . والثاني : أنها لا تعمل في "خير " مع زيادتها ، وفي الثاني نظر ، إذ الزيادة لا تنافي العمل ، وقد تقدم عليه دلائل في البقرة عند قوله : ألا نقاتل في سبيل الله .

الخامس : أنها على بابها ، والمراد : كنتم في علم الله ، أو في اللوح المحفوظ .

السادس : أن هذه الجملة متصلة بقوله : ففي رحمة الله أي : فيقال : لهم في القيامة كنتم خير أمة ، وهو بعيد جدا .

قوله : أخرجت يجوز في هذه الجملة أن تكون في محل جر نعتا لـ "أمة " وهو الظاهر ، وأن تكون في محل نصب نعتا لـ "خير " ، وحينئذ يكون قد روعي لفظ الاسم الظاهر بعد وروده بعد ضمير الخطاب ، ولو روعي ضمير الخطاب لكان جائزا أيضا ، وذلك أنه إذا تقدم ضمير حاضر متكلما كان أو غائبا ، ثم جاء بعده خبره اسما ظاهرا ، ثم جاء بعد ذلك الاسم الظاهر ما يصلح أن يكون وصفا له كان للعرب فيه طريقان ، إحداهما : مراعاة ذلك الضمير السابق فيطابقه بما في تلك الجملة الواقعة صفة للاسم الظاهر ، والثانية : مراعاة ذلك الاسم الظاهر فيعيد الضمير عليه منها غائبا ، وذلك [نحو ] قولك : "أنت رجل تأمر بمعروف " بالخطاب مراعاة لـ "أنت " ، و "يأمر " بالغيبة مراعاة لـ "رجل " ، "وأنا امرؤ أقول الحق " بالمتكلم مراعاة لـ "أنا " و "يقول الحق " مراعاة لامرئ . ومن مراعاة الضمير قوله تعالى : بل أنتم قوم تجهلون ، بل أنتم قوم تفتنون ، وقوله " وإنك امرؤ فيك جاهلية " [ ص: 350 ] وقول الشاعر :


1386 - وأنت امرؤ قد كثأت لك لحية     كأنك منها قاعد في جوالق



ولو قيل في الآية الكريمة "أخرجتم " مراعاة لـ "كنتم " لكان جائزا من حيث اللفظ ، ولكن لا يجوز أن يقرأ به ، لأن القراءة سنة متبعة ، فالأولى أن تجعل الجملة صفة لـ "أمة " لا لـ "خير " ليتناسب الخطاب في قوله : " تأمرون " .

قوله : " للناس " فيه أوجه ، أحدها : أن يتعلق بـ " أخرجت " ، والثاني : أن يتعلق بـ "خير " والفرق بينهما من حيث المعنى أنه لا يلزم أن يكونوا أفضل الأمم في الوجه الثاني من هذا اللفظ ، بل من موضع آخر . والثالث : أنه متعلق من حيث المعنى لا من حيث الإعراب بـ " تأمرون " على أن مجرورها مفعول به ، فلما قدم ضعف العامل فقوي بزيادة اللام كقوله : إن كنتم للرؤيا تعبرون أي : تعبرون الرؤيا .

قوله : " تأمرون " في هذه الجملة أوجه أحدها : أنها خبر ثان لـ "كنتم " ، ويكون قد راعى الضمير المتقدم في "كنتم " ، ولو راعى الخبر لقال : "يأمرون " بالغيبة ، وقد تقدم تحقيقه . والثاني : أنها في محل نصب على الحال ، قاله الراغب وابن عطية . الثالث : أنها في محل نصب نعتا لخير أمة ، وأتى بالخطاب لما تقدم ، قاله الحوفي . الرابع : أنها مستأنفة بين بها كونهم خير أمة ، كأنه قيل : السبب في كونكم خير الأمم هذه الخصال الحميدة ، وهذا أغرب الأوجه .

[ ص: 351 ] قوله : لكان خيرا اسم "كان " ضمير يعود على المصدر المدلول عليه بفعله ، والتقدير : لكان الإيمان خيرا كقولهم : "من كذب كان شرا له " أي : كان الكذب شرا له ، ونحوه : اعدلوا هو أقرب ، [وقوله ] :


1387 - إذا نهي السفيه جرى إليه     وخالف والسفيه إلى خلاف



أي : جرى إليه السفه .

والمفضل عليه محذوف أي : خيرا لهم من كفرهم وبقائهم على جهلهم . والمراد بالخيرية في زعمهم : وقال ابن عطية : "ولفظة " خير "صيغة تفضيل ولا مشاركة بين كفرهم وإيمانهم في الخير ، وإنما جاز ذلك لما في لفظ " خير "من الشياع وتشعب الوجوه ، وكذلك هي لفظة " أفضل "و " أحب "وما جرى مجراهما " . قال الشيخ : "وإبقاؤها على موضوعها الأصلي أولى إذا أمكن ذلك ، وقد أمكن ذلك إذ الخيرية مطلقة فتحصل بأدنى مشاركة " .

قوله : منهم المؤمنون إلى آخره : جمل مستأنفة سيقت للإخبار بذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية