صفحة جزء
آ . (113) قوله تعالى : ليسوا سواء : الظاهر في هذه الآية أن الوقف على "سواء " تام ، فإن الواو اسم "ليس " ، و "سواء " خبر ، والواو تعود على أهل الكتاب المتقدم ذكرهم ، والمعنى : أنهم منقسمون إلى مؤمن وكافر لقوله : منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون فانتفى استواؤهم . و "سواء " في الأصل مصدر فلذلك وحد ، وقد تقدم تحقيقه أول البقرة .

وقال أبو عبيدة : "الواو في " ليسوا "علامة جمع وليست ضميرا ، واسم " ليس "على هذا " أمة "و " قائمة "صفتها ، وكذا " يتلون " ، وهذا على لغة " أكلوني البراغيث "كقوله الآخر :


1389 - يلومونني في اشتراء النخيـ ل أهلي فكلهم ألوم



قالوا : " وهي لغة ضعيفة " . ونازع السهيلي النحويين في كونها ضعيفة ، ونسبها بعضهم لأزد شنوءة ، وكثيرا ما جاء عليها الحديث ، وفي القرآن مثلها ، وسيأتي تحقيق هذا في المائدة بزيادة بيان .

[ ص: 355 ] قال ابن عطية : " وما قاله أبو عبيدة خطأ مردود ، ولم يبين وجه الخطأ ، وكأنه توهم أن اسم "ليس " هو "أمة قائمة " فقط ، وأنه لا محذوف ثم ، إذ ليس الغرض تفاوت الأمة القائمة التالية ، فإذا قدر ثم محذوف لم يكن قول أبي عبيدة خطأ مردودا ، إلا أن بعضهم رد قوله بأنها لغة ضعيفة ، وقد تقدم ما فيها والتقدير الذي يصح به المعنى ، أي : ليس سواء من أهل الكتاب أمة قائمة موصوفة بما ذكر وأمة كافرة ، فهذا تقدير يصح به المعنى الذي نحا إليه أبو عبيدة .

وقال الفراء : "إن الوقف لا يتم على " سواء " ، فجعل الواو اسم " ليس "و " سواء "خبرها ، كما قال الجمهور ، و " أمة "مرتفعة بـ " سواء "ارتفاع الفاعل ، أي : ليس أهل الكتاب مستويا منهم أمة قائمة موصوفة بما ذكر وأمة كافرة ، فحذفت الجملة المعادلة لدلالة القسم الأول عليها كقول الشاعر :


1390 - دعاني إليها القلب إني لأمرها     سميع فما أدري أرشد طلابها



أي : أم غي ، فحذف " الغي "لدلالة ضده عليه ، ومثله قول الآخر :


1391 - أراك فما أدري أهم هممته     وذو الهم قدما خاشع متضائل



أي : أهم هممته أم غيره ، فحذف للدلالة ، وهو كثير ، قال الفراء : " لأن المساواة تقتضي شيئين كقوله سواء العاكف فيه والباد ، وقوله سواء [ ص: 356 ] محياهم ومماتهم . وقد ضعف قول الفراء من حيث الحذف ومن حيث وضع الظاهر موضع المضمر ، إذ الأصل : منهم أمة قائمة ، فوضع "أهل الكتاب " موضع الضمير .

والوجه أن يكون " ليسوا سواء " جملة تامة ، وقوله : من أهل الكتاب أمة جملة برأسها ، وقوله : يتلون جملة أخرى مبينة لعدم استوائهم ، كما جاءت الجملة من قوله : تأمرون بالمعروف إلخ مبينة للخيرية . ويجوز أن يكون "يتلون " في محل رفع صفة لأمة .

ويجوز أن يكون حالا من "أمة " لتخصصها بالنعت ، وأن يكون حالا من الضمير في "قائمة " ، وعلى كونها حالا من "أمة " يكون العامل فيها الاستقرار الذي تضمنه الجار ، ويجوز أن يكون حالا من الضمير المستكن في هذا الجار لوقوعه خبرا لأمة .

قوله : آناء الليل ظرف لـ "يتلون " . والآناء : الساعات ، واحدها : "أنى " بفتح الهمزة والنون بزنة "عصا " أو "إنى " بكسر الهمزة وفتح النون بزنة "معى " ، أو "أني " بالفتح والسكون بزنة "ظبي " أو : إني "بالكسر والسكون بزنة " نحي " ، أو " إنو "بالكسر والسكون مع الواو بزنة " جرو " ، فالهمزة في " آناء "منقلبة عن ياء على الأقوال الأربعة كرداء ، وعن واو على القول الأخير ، نحو : " كساء "وستأتي بقية هذه المادة في مواضع .

ولا يجوز أن يكون " آناء الليل "ظرفا لـ " قائمة "قال أبو البقاء : " لأن "قائمة " قد وصفت فلا تعمل فيهما بعد الصفة "وهذا على التقدير أن يكون " [ ص: 357 ] يتلون "وصفا لقائمة ، وفيه نظر ؛ لأن المعنى ليس على جعل هذه الجملة صفة لما قبلها ، بل على الاستئناف للبيان المتقدم ، وعلى تقدير جعلها صفة لما قبلها فهي صفة لـ " أمة "لا لـ " قائمة "لأن الصفة لا توصف ، إلا أن يكون معنى الصفة الثانية لائقا بما قبلها نحو : " مررت برجل ناطق فصيح "فـ " فصيح "صفة لناطق ، لأن معناه لائق به . وبعضهم يجعله وصفا لرجل ، وإنما المانع من تعلق هذا الظرف بـ " قائمة "ما ذكرته من استئناف جملته .

قوله : وهم يسجدون يجوز أن تكون حالا من فاعل " يتلون "أي : يتلون القرآن وهم ساجدون ، وهذا قد يكون في شريعتهم مشروعية التلاوة في السجود بخلاف شريعتنا ، وبهذا يرجح قول من يقول : إنهم غير أمة محمد . ويجوز أن تكون حالا من الضمير في " قائمة "قاله أبو البقاء . وفيه ضعف للاستئناف المذكور ، ويجوز أن تكون مستأنفة .

التالي السابق


الخدمات العلمية