صفحة جزء
آ . (117) قوله تعالى : مثل ما ينفقون : "ما " يجوز أن تكون موصولة اسمية ، وعائدها محذوف لاستكمال الشروط أي : ينفقونه .

وقوله : كمثل ريح خبر المبتدأ ، وعلى هذا الظاهر - أعني تشبيه الشيء المنفق بالريح - استشكل التشبيه لأن المعنى على تشبيهه بالحرث - أي الزرع - لا بالريح . وقد أجيب عن ذلك بأحد أوجه : الأول : أنه من باب التشبيه المركب ، بمعنى أنه يقابل الهيئة الاجتماعية بالهيئة الاجتماعية ، ولا يقابل الأفراد بالأفراد ، وهذا قد مر تحقيقه أول البقرة عند قوله تعالى : مثلهم كمثل ، وهذا اختيار الزمخشري .

الثاني : أنه من باب التشبيه بين شيئين بشيئين ، فذكر أحد المشبهين [ ص: 359 ] وترك ذكر الآخر ، وذكر أحد المشبهين به وترك ذكر الآخر ، فقد حذف من كل اثنين ما يدل عليه نظيره ، وقد مر نظير هذا في البقرة عند قوله تعالى : ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق .

واختار هذا ابن عطية ، وقال "هذه غاية البلاغة والإعجاز " . الثالث : أنه على حذف مضاف : إما من الأول تقديره : "مثل مهلك ما ينفقونه " ، وإما من الثاني تقديره : كمثل مهلك ريح . وهذا الثاني أظهر ؛ لأنه يؤدي في الأول إلى تشبيه الشيء المنفق المهلك بالريح ، وليس المعنى عليه أيضا ، ففيه عود لما فر منه .

وقد ذكر الشيخ التقدير المشار إليه ، ولم ينبه عليه ، اللهم إلا أن يريد بـ "مهلك " اسم مصدر أي : مثل إهلاك ما ينفقون ، ولكن يحتاج إلى تقدير مثل هذا المضاف أيضا قبل "ريح " تقديره : مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح . ويجوز أن تكون "ما " مصدرية ، وحينئذ يكون قد شبه إنفاقهم في عدم نفعه بالريح الموصوفة بهذه الصفة ، وهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس .

قوله : فيها صر في محل جر نعتا لـ "ريح " ، ويجوز أن يكون "فيها صر " جملة من مبتدأ وخبر ، ويجوز أن يكون "فيها " وحده هو الصفة ، و "صر " فاعل به ، وجاز ذلك لاعتماد الجار على الموصوف ، وهذا أحسن ؛ لأن الأصل في الأوصاف الإفراد ، وهذا قريب منه .

والصر "قيل : البرد الشديد المحرق ، قال :

[ ص: 360 ]

1392 - لا يعدلن أتاويون تضربهم نكباء صر بأصحاب المحلات



وقيل : " الصر "بمعنى الصرصر ، وهو الشيء البارد ، قالت ليلى الأخيلية :


1393 - ولم يغلب الخصم الألد ويملأ الـ     ـجفان سديفا يوم نكباء صرصر



وأصله مأخوذ من الشد والتعقيد ، ومنه : الصرة للعقدة ، وأصر على كذا : لزمه . وقال بعضهم : " الصر "صوت لهيب النار ، يكون في الريح من : صر الشيء يصر صريرا أي : صوت بهذا الحس المعروف ، ومنه : صرير الباب . قال الزجاج : " والصر : صوت النار التي في الريح "وإذا عرف هذا فإن قلنا : الصر : البرد الشديد أو هو صوت النار أو صوت الريح ، فظرفية الريح له واضحة ، وإن كان الصر صفة الريح كالصرصر فالمعنى : فيها قرة صر ، كما تقول : برد بارد ، وحذف الموصوف وقامت الصفة مقامه ، أو تكون الظرفية مجازا جعل الموصوف ظرفا للصفة كما قال :


1394 - ... ... ... ...     وفي الرحمن للضعفاء كافي



[ ص: 361 ] ومنه قولهم : "إن ضيعني فلان ففي الله كاف " المعنى : الرحمن كاف ، والله كاف . وهذا فيه بعد .

قوله : "أصابت " هذه الجملة في محل جر أيضا صفة لـ "ريح " ، ولا يجوز أن تكون صفة لـ "صر " لأنه مذكر . وبدأ أولا بالوصف بالجار لأنه قريب من المفرد ثم بالجملة . هذا إن أعربنا "فيها " وحده صفة ، ورفعنا به "صر " أما إذا أعربناه خبرا مقدما و "صر " مبتدأ فهما جملة أيضا .

قوله : "ظلموا " صفة لـ "قوم " ، والضمير في "ظلمهم " يعود على القوم ذوي الحرث ، أي : ما ظلمهم الله بإهلاك حرثهم ، ولكنهم ظلموا أنفسهم بارتكابهم المعاصي التي كانت سببا في إهلاكه . وجوز الزمخشري وغيره أن يعود على المنفقين ، وإليه نحا ابن عطية ، ورجحه بأن أصحاب الحرث لم يذكروا للرد عليهم ولا لتبيين ظلمهم ، بل لمجرد التشبيه بهم .

قوله : ولكن أنفسهم يظلمون العامة على تخفيف "لكن " وهي استدراكية ، و "أنفسهم " مفعول مقدم ، قدم للاختصاص أي : لم يقع وبال ظلمهم إلا بأنفسهم خاصة لا يتخطاهم ، ولأجل الفواصل أيضا . وقرأها بعضهم مشددة ، ووجهها أن يكون "أنفسهم " اسمها ، و "يظلمون " الخبر ، والعائد من الجملة الخبرية على الاسم محذوف تقديره : ولكن أنفسهم يظلمونها ، فحذف ، وحسن حذفه كون الفعل فاصلة ، فلو ذكر مفعوله لفات هذا الغرض . وقد خرجه بعضهم على أن يكون اسمها ضمير الأمر والقصة حذف للعلم به ، و "أنفسهم " مفعول مقدم ليظلمون كما تقدم ، والجملة خبر [ ص: 362 ] لها ، وقد رد هذا بأن حذف اسم هذه الحروف لا يجوز إلا ضرورة كقوله :


1395 - إن من يدخل الكنيسة يوما     يلق فيها جآذرا وظباء



على أن بعضهم لا يقصره على الضرورة ، مستشهدا بقوله عليه السلام : " إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون " ، قال : "تقديره إنه " ، ويعزى هذا للكسائي ، وقد رده بعضهم ، وخرج الحديث على زيادة "من " والتقدير : إن أشد الناس . والبصريون لا يجيزون زيادة "من " في مثل هذا التركيب لما عرف غير مرة إلا الأخفش .

التالي السابق


الخدمات العلمية