صفحة جزء
آ . (118) قوله تعالى : من دونكم : يجوز أن يكون صفة لـ "بطانة " فيتعلق بمحذوف ، أي : كائنة من غيركم . وقدره الزمخشري : "من غير أبناء جنسكم ، وهم المسلمون " ويجوز أن يتعلق بفعل النهي . وجوز بعضهم أن تكون "من " زائدة ، والمعنى : دونكم في العمل والإيمان .

وبطانة الرجل : خاصته الذين يباطنهم في الأمور ، ولا يظهر غيرهم عليها مشتقة من البطن ، والباطن : دون الظاهر ، وهذا كما استعاروا الشعار والدثار في ذلك . قال عليه السلام : " الناس دثار والأنصار شعار " والشعار [ ص: 363 ] ما يلي جسدك من الثياب . ويقال : "بطن فلان بفلان بطونا وبطانة " . قال الشاعر :


1396 - أولئك خلصاني نعم وبطانتي وهم عيبتي من دون كل قريب



قوله : لا يألونكم خبالا يقال : "ألا في الأمر يألو فيه " أي : قصر نحو : غزا يغزو ، فأصله أن يتعدى بحرف الجر كما ترى .

واختلف في نصب "خبالا " على أوجه . أحدها : أنه مفعول ثان . والضمير هو الأول ، وإنما تعدى لاثنين للتضمين . قال الزمخشري : "يقال : ألا في الأمر يألو فيه أي : قصر ، ثم استعمل معدى إلى مفعولين في قولهم : " لا آلوك نصحا ولا ألوك جهدا "على التضمين ، والمعنى : لا أمنعك نصحا ولا أنقصكه " .

الثاني : أنه منصوب على إسقاط حرف الجر ، والأصل : لا يألونكم في خبال أي : في تخبيلكم وهذا غير منقاس ، بخلاف التضمين فإنه منقاس ، وإن كان فيه خلاف واه .

الثالث : أن ينتصب على التمييز ، وهو حينئذ تمييز منقول من المفعولية ، والأصل : لا يألون خبالكم أي : في خبالكم : ثم جعل الضمير المضاف إليه مفعولا بعد إسقاط الخافض ، فنصب "الخبال " الذي كان مضافا تمييزا ، ومثله قوله تعالى : وفجرنا الأرض عيونا أي : "عيون الأرض " ففعل به [ ص: 364 ] ما تقدم ، ومثله في الفاعلية : واشتعل الرأس شيبا الأصل : "شيب الرأس " ، وهذا عند من يثبت كون التمييز منقولا من المفعولية . وقد منعه بعضهم ، وتأول قوله تعالى : وفجرنا الأرض عيونا على أن "عيونا " بدل بعض من كل ، وفيه حذف العائد أي : عيونا منها . وعلى هذا التخريج يجوز أن يكون "خبالا " بدل اشتمال من "كم " ، والضمير أيضا محذوف أي : "خبالا منكم " وهذا وجه رابع .

الخامس : أنه مصدر في موضع الحال أي : متخبلين . السادس : قال ابن عطية : معناه : لا يقصرون لكم فيما فيه من الفساد عليكم " ، فعلى هذا الذي قدره يكون المضمر و " خبالا "منصوبين على إسقاط الخافض وهو اللام و " في " .

وهذه الجملة فيها ثلاثة أوجه . أحدها : أنها استئنافية لا محل لها من الإعراب ، وإنما جيء بها وبالجمل التي بعدها لبيان حال الطائفة الكافرة حتى ينفروا منها فلا يتخذوها بطانة ، وهو وجه حسن . والثاني : أنها حال من الضمير المستكن في "من دونكم " على أن الجار صفة لـ "بطانة " . والثالث : أنها في محل نصب نعتا لـ "بطانة " أيضا .

والألو بزنة "الغزو " التقصير كما تقدم ، قال زهير :


1397 - سعى بعدهم قوم لكي يدركوهم     فلم يفعلوا ولم يليموا ولم يألوا



[ ص: 365 ] وقال امرؤ القيس :


1398 - وما المرء ما دامت حشاشة نفسه     بمدرك أطراف الخطوب ولا آل



يقال : آلى يؤلي بزنة "أكرم " ، فأبدلت الهمزة الثانية ألفا ، وأنشدوا :


1399 - ... ... ... ...     فما آلى بني ولا أساؤوا



ويقال : ائتلى يأتلي بزنة "اكتسب " يكتسب ، قال امرؤ القيس :


1400 - ألا رب خصم فيك ألوى رددته     نصيح على تعذاله غير مؤتل



فيتحد لفظ "آلى " بمعنى قصر و "آلى " بمعنى حلف ، وإن كان الفرق بينهما ثابتا من حيث المادة ؛ لأن لامه من معنى الحلف ياء ، ومن معنى التقصير واو .

وقال الراغب : "وألوت فلانا أي : أوليته تقصيرا نحو : كسبته أي : أوليته كسبا وما ألوته جهدا أي : ما أوليته تقصيرا بحسب الجهد ، فقولك : " جهدا "تمييز . وقوله : لا يألونكم خبالا منه ، أي : لا يقصرون في طلب الخبال . وقال تعالى : ولا يأتل أولو الفضل قيل : هو يفتعل من ألوت ، وقيل : هو من آليت أي : حلفت .

[ ص: 366 ] والخبال : الفساد ، وأصله ما يلحق الحيوان من مرض وفتور فيورثه فسادا واضطرابا ، يقال منه : خبله وخبله بالتخفيف والتشديد فهو خابل ومخبل ومخبول ومخبل . ويقال : خبل وخبل وخبال . وفي الحديث : " من شرب الخمر ثلاثا كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال " وقال زهير بن أبي سلمى :


1401 - هنالك إن يستخبلوا المال يخبلوا     وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا



والمعنى في هذا البيت : أنهم إذا طلب منهم إفساد شيء من إبلهم أفسدوه ، وهذا كناية عن كرمهم .

قوله : ودوا ما عنتم في هذه الجملة ثلاثة أوجه ، أوجهها : أن تكون مستأنفة كما هو الظاهر فيما قبلها . والثاني : أنها نعت لـ " بطانة "فمحلها نصب . والثالث : أنها حال من الضمير في " يألونكم " . و " ما "مصدرية ، و " عنتم "صلتها ، وهي وصلتها مفعول الودادة أي : عنتكم أي : مقتكم . وقد تقدم اشتقاق هذه اللفظة في البقرة عند [قوله ] لأعنتكم . وقال الراغب هنا : " المعاندة والمعانتة يتقاربان ، لكن المعاندة هي الممانعة ، والمعانتة أن يتحرى مع الممانعة المشقة .

قوله : قد بدت البغضاء هذه الجملة كالتي قبلها ، وقرأ عبد الله : "بدا " من غير تاء ، لأن الفاعل مؤنث مجازي ولأنها في معنى البغض . والبغضاء [ ص: 367 ] مصدر كالسراء والضراء . يقال منه : بغض الرجل فهو بغيض كظرف فهو ظريف .

وقوله : من أفواههم متعلق بـ "بدت " و "من " لابتداء الغاية . وجوز أبو البقاء أن تكون حالا أي : خارجة من أفواههم . والأفواه : جمع فم ، وأصله : فوه ، فلامه هاء ، يدل على ذلك جمعه على "أفواه " ، وتصغيره على "فويه " ، والنسب إليه على فوهي ، وهل وزنه فعل بسكون العين أو فعل بفتحها ؟ . خلاف للنحويين ، وإذا عرفت ذلك فاعلم أنهم حذفوا لامه تخفيفا فبقي آخره حرف علة فأبدلوها ميما لقربها منها لأنهما من الشفة ، وفي الميم هوي في الفم يضارع المد الذي في الواو ، هذا كله إذا أفردوه عن الإضافة ، فإن أضافوه لم يبدلوا حرف العلة كقوله :


1402 - فوه كشق العصا لأيا تبينه      ... ... ... ...



وقد عكس الأمر في الطرفين ، فأتى بالميم في الإضافة وبحرف العلة في القطع عنها ، فمن الأول قوله :


1403 - يصبح ظمآن وفي البحر فمه



وخصه الفارسي وجماعة بالضرورة ، وغيرهم جوزه سعة ، وجعل منه [ ص: 368 ] قوله عليه السلام : " لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك " ، ومن الثاني قوله :


1404 - خالط من سلمى خياشيم وفا



أي : "وفاها " ، وإنما جاز ذلك لأن الإضافة كالمنطوق بها ، وقالت العرب : "رجل مفوه " إذا كان يجيد القول ، وهو أفوه منه أي : أوسع فما ، وقال لبيد :


1405 - ... ... ... ...     وما فاهوا به أبدا مقيم



وفي الفم تسع لغات ، وله أربع مواد : فـ وه ، فـ م و ، فـ م ي ، فـ م م ، بدليل أفواه وفموين وفميين وأفمام .

قوله : وما تخفي يجوز أن تكون بمعنى الذي والعائد محذوف أي : تخفيه ، فحذف ، وأن تكون المصدرية أي : وإخفاء صدورهم ، وعلى كلا التقديرين فـ "ما " مبتدأ ، و "أكبر " خبره ، والمفضل عليه محذوف أي : أكبر من الذي أبدوه بأفواههم .

[ ص: 369 ] قوله : إن كنتم شرط حذف جوابه لدلالة ما تقدم عليه ، أو هو ما تقدم عند من يرى جوازه .

التالي السابق


الخدمات العلمية