صفحة جزء
آ . (119) قوله تعالى : ها أنتم أولاء تحبونهم : قد تقدم نظيره وتحقيقه مرتين ، ونزيد هنا أن يكون "أولاء " في موضع نصب بفعل محذوف ، فتكون المسألة من الاشتغال نحو : "أنا زيدا ضربته " وقوله : ولا يحبونكم يحتمل أن يكون استئناف إخبار وأن يكون جملة حالية . و "الكتاب " يجوز أن تكون الألف واللام للجنس ، والمعنى بالكتب كلها ، فاكتفى الواحد ، ويجوز أن تكون للعهد ، والمراد به كتاب مخصوص .

وقوله : "عليكم " . متعلق بـ "عضوا " ، وكذلك : "من الغيظ " . و "من " فيه لابتداء الغاية ، ويجوز أن تكون بمعنى اللام فتفيد العلة أي : من أجل الغيظ . وجوز أبو البقاء في "عليكم " وفي "من الغيظ " أن يكونا حالين ، فقال : "ويجوز أن يكون حالا أي : حنقين عليكم ، " من الغيظ "متعلق بـ " عضوا "أيضا ، و " من "لابتداء الغاية أي : من أجل الغيظ ، ويجوز أن يكون حالا أي : " مغتاظين "انتهى . وقوله : " ومن لابتداء الغاية أي : من أجل الغيظ "كلام متنافر ، لأن التي للابتداء لا تفسر بمعنى " من أجل "فإنه معنى العلة ، والعلة والابتداء متغايران ، وعلى الجملة فالحالية فيها لا يظهر معناها ، وتقديره الحال ليس تقديرا صناعيا ، لأن التقدير الصناعي إنما يكون بالأكوان المطلقة .

والعض : الأزم بالأسنان وهو تحامل الأسنان بعضها على بعض . يقال : عضضت بكسر العين في الماضي أعض بالفتح - عضا وعضيضا . قال [ ص: 370 ] امرؤ القيس :


1406 - ... ... ... ... كفحل الهجان ينتحي للعضيض



ويعبر به عن الندم المفرط ، ومنه : ويوم يعض الظالم على يديه وإن لم يكن ثم عض حقيقة . قال أبو طالب :


1407 - وقد صالحوا قوما علينا أشحة     يعضون غيظا خلفنا بالأنامل



جعل الباء زائدة في المفعول ، إذ الأصل : يعضون خلفنا الأنامل ، وله نظائر مرت . وقال آخر :


1408 - قد أفنى أنامله أزمه     فأمسى يعض علي الوظيفا



وقال الحارث بن ظالم المري :


1409 - وأقتل أقواما لئاما أذلة     يعضون من غيظ رؤوس الأباهم



وقال آخر :

[ ص: 371 ]

1410 - إذا رأوني أطال الله غيظهم     عضوا من الغيظ أطراف الأباهيم



والعض كله بالضاد إلا في قولهم : " عظ الزمان "أي اشتد ، وعظت الحرب ، فإنهما بالظاء أخت الطاء ، وأنشد :


1411 - وعظ زمان يا بن مروان لم يدع     من المال إلا مسحتا أو مجلف



وقد رأيته بخط جماعة من الفضلاء : " وعض زمان "بالضاد .

والعض : - بضم الفاء - علف من نوى مرضوض وغيره ، ومنه : بعير عضاضي أي : سمين كأنه منسوب إليه ، وأعض القوم : إذا أكلت إبلهم ذلك والعض - بكسر الفاء - الداهية من الرجال كأنهم تصوروا عضه وشدته . وزمن عضوض أي : جدب ، والتعضوض : نوع من التمر سمي بذلك لشدة مضغه وصعوبته .

والأنامل : جمع أنملة وهي رؤوس الأصابع ، قال الرماني : "واشتقاقها من النمل هذا الحيوان المعروف ، شبهت به لدقتها وسرعة تصرفها وحركتها ومنه قالوا للنمام : نمل ومنمل لذلك قال :


1412 - ولست بذي نيرب فيهم     ولا منمش منهم منمل



وفي ميمها الضم والفتح .

والغيظ : مصدر غاظه يغيظه أي : أغضبه ، وفسره الراغب بأنه أشد [ ص: 372 ] الغضب قال : " وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من ثوران دم قلبه "قال : وإذا وصف به الله تعالى فإنما يراد الانتقام . والتغيظ : إظهار الغيظ ، وقد يكون مع ذلك صوت . قال تعالى : سمعوا لها تغيظا وزفيرا .

والجملة من قوله : " وتؤمنون "معطوفة على : " تحبونهم "ففيها ما فيها من الأوجه المعروفة . وقال الزمخشري : " والواو في " وتؤمنون " للحال وانتصابها من "لا يحبونكم " أي : لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابكم كله ، وهم مع ذلك يبغضونكم فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم "قال الشيخ : " وهو حسن ، إلا أن فيه من الصناعة النحوية ما يخدشه ، وهو أنه جعل الواو في "وتؤمنون " للحال وانتصابها من "لا يحبونكم " ، والمضارع المثبت إذا وقع حالا لا تدخل عليه واو الحال تقول : "جاء زيد يضحك " ولا يجوز : "ويضحك " . فأما قولهم : "قمت وأصك عينه " ففي غاية الشذوذ ، وقد أول على إضمار مبتدأ أي : "وأنا أصك عينه " فتصير الجملة اسمية ويحتمل هذا التأويل هنا أي : ولا يحبونكم وأنتم تؤمنون بالكتاب كله ، لكن الأولى ما ذكرناه من كونها للعطف "يعني فإنه لا يحوج إلى حذف بخلاف تقدير مبتدأ فإنه على خلاف الأصل . وثم جملة محذوفة يدل عليها السياق ، والتقدير : وتؤمنون بالكتاب كله ولا يؤمنون هم به كله ، بل يقولون : نؤمن ببعض ونكفر ببعض .

قوله : بغيظكم يجوز أن تكون الباء للحال أي : موتوا ملتبسين بغيظكم لا يزايلكم ، وهو كناية عن كثرة الإسلام وفشوه ، لأنه كلما ازداد الإيمان زاد غيظهم . ويجوز أن تكون للسببية أي : بسبب غيظكم .

[ ص: 373 ] وقوله : موتوا صورته أمر ومعناه الدعاء ، وقيل : معناه الخبر أي : إن الأمر كذلك ، وقد قال بعضهم : " إنه لا يجوز أن يكون بمعنى الدعاء لأنه لو أمره بأن يدعو عليهم بذلك لماتوا جميعا على هذه الصفة فإن دعوته لا ترد ، وقد آمن منهم كثيرون بعد هذه الآية ، ولا يجوز أن يكون بمعنى الخبر لأنه لو كان خبرا لوقع على حكم ما أخبر ولم يؤمن أحد بعد ، وإذا انتفى هذان المعنيان فلم يبق إلا أن يكون معناه التوبيخ والتهديد ، ومثله : اعملوا ما شئتم " إذا لم تستح فاصنع ما شئت " وهذا الذي قاله ليس بشيء ؛ لأن من آمن منهم لم يدخل تحت الدعاء إن قصد به الدعاء ، ولا تحت الخبر إن قصد به الإخبار .

التالي السابق


الخدمات العلمية