صفحة جزء
آ . (144) قوله تعالى : وما محمد إلا رسول : "ما " نافية ولا عمل لها هنا مطلقا أعني على لغة الحجازيين والتميميين ، لأن التميميين لا يعملونها البتة ، والحجازيون يعملونها بشروط منها : ألا ينتقض النفي بـ "إلا " ، إذ يزول السبب الذي عملت لأجله وهو شبهها بـ "ليس " في نفي الحال ، فيكون " محمد " مبتدأ ، و "رسول " خبره ، هذا هو مذهب الجمهور ، أعني إهمالها إذا نقض نفيها ، وقد أجاز إعمالها منتقضة النفي بإلا يونس وأنشد :


1452 - وما الدهر إلا منجنونا بأهله وما صاحب الحاجات إلا معذبا



فنصب "منجنونا " و "معذبا " على خبر "ما " ، وهما بعد "إلا " ، ومثله قول الآخر :


1543 - وما حق الذي يعتو نهارا     ويسرق ليله إلا نكالا



فـ "حق " اسم "ما " و "نكالا " خبرها . وتأول الجمهور هذه الشواهد على أن الخبر محذوف ، وهذا المنصوب معمول لذلك الخبر المحذوف [ ص: 415 ] والتقدير : وما الدهر إلا يدور دوران منجنون ، فحذف الفعل الناصب لـ "دوران " ، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه في الإعراب ، وكذا "إلا معذبا " تقديره : يعذب تعذيبا ، فحذف الفعل وأقيم "معذبا " مقام "تعذيب " كقوله : ومزقناهم كل ممزق أي : كل تمزيق ، وكذا "إلا نكالا " وفيه التكلف ما ترى .

قوله : قد خلت في هذه الجملة وجهان ، أظهرهما : أنها في محل رفع صفة لـ "رسول " . والثاني : أنها في محل نصب على الحال من الضمير المستكن في "رسول " ، وفيه نظر لجريان هذه الصفة مجرى الجوامد فلا تتحمل ضميرا .

و "من قبله " : فيه وجهان أيضا ، أحدهما : أنه متعلق بـ "خلت " . والثاني : أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من "الرسل " مقدما عليها ، وهي حينئذ حال مؤكدة ، لأن ذكر الخلو يشعر بالقبلية . وقرأ ابن عباس : "رسل " بالتنكير . قال أبو الفتح : "ووجهها أنه موضع تبشير لأمر النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الحياة ومكان تسوية بينه وبين البشر في ذلك ، وهكذا يفعل في أماكن الاقتصاد نحو : وقليل من عبادي الشكور وما آمن معه إلا قليل وقال أبو البقاء : " وهو قريب من معنى المعرفة "كأنه يريد أن المراد بالرسل الجنس ، فالنكرة قريبة منه بهذه الحيثية ، وقراءة الجمهور أولى لأنها تدل على تفخيم الرسل وتعظيمهم .

[ ص: 416 ] قوله : أفإن مات الهمزة لاستفهام الإنكار ، والفاء للعطف ورتبتها التقديم لأنها حرف عطف ، وإنما قدمت الهمزة لأنها لها صدر الكلام ، وقد تقدم تحقيق ذلك ، وأن الزمخشري يقدر بينهما فعلا محذوفا تعطف الفاء عليه ما بعدها . وقال ابن خطيب زملكي : "الأوجه أن يقدر محذوف بعد الهمزة وقيل الفاء تكون الفاء عاطفة عليه ، ولو صرح به لقيل : أتؤمنون به مدة حياته فإن مات ارتددتم فتخالفوا سنن اتباع الأنبياء قبلكم في ثباتهم على ملل أنبيائهم بعد موتهم " وهذا هو مذهب الزمخشري ، إلا أن الزمخشري هنا عبر بعبارة لا تقتضي مذهبه الذي هو حذف جملة بعد الهمزة فإنه قال : "الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة قبلها على معنى التسبيب ، والهمزة لإنكار أن يجعلوا خلو الرسل قبله سببا لانقلابهم على أعقابهم بعد هلاكه بموت أو قتل ، مع علمهم أن خلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكا به يجب أن يجعل سببا للتمسك بدين محمد صلى الله عليه وسلم لا للانقلاب عنه " فظاهر هذا الكلام أن الفاء عطفت هذه الجملة المشتملة على الإنكار على ما قبلها من قوله : قد خلت من غير تقدير جملة أخرى .

وقال أبو البقاء قريبا من هذا فإنه قال : "الهمزة عند سيبويه في موضعها ، والفاء تدل على تعلق الشرط بما قبله " . انتهى . لا يقال : إنه جعل الهمزة في موضعها فيوهم هذا أن الفاء ليست مقدمة عليها لأنه جعل هذا مقابلا لمذهب يونس ، فإن يونس يزعم أن هذه الهمزة في مثل هذا التركيب داخلة على جواب الشرط ، فهي في مذهبه [في ] غير موضعها . وسيأتي تحرير هذا كله .

[ ص: 417 ] و "إن " شرطية . و "مات " و "انقلبتم " شرط وجزاء ، ودخول الهمزة على أداة الشرط لا يغير شيئا من حكمها ، وزعم يونس أن الفعل الثاني الذي هو جزاء الشرط ليس بجزاء للشرط ، إنما هو المستفهم عنه ، وأن الهمزة داخلة عليه تقديرا فينوى به التقديم وحينئذ فلا يكون جوابا ، بل الجواب محذوف ، ولا بد إذ ذاك من أن يكون فعل الشرط ماضيا ، إذ لا يحذف الجواب إلا والشرط ماض ، ولا اعتبار بالشعر فإنه ضرورة ، فلا يجوز عنده أن تقول : "أإن تكرمني أكرمك " [لا بجزمهما ولا بجزم الأول ورفع الثاني ] لأن الشرط مضارع ، ولا : "أإن أكرمتني أكرمك " بجزم "أكرمك " لأنه ليس الجواب بل دالا عليه ، والنية به التقديم ، فإن رفعت "أكرمك " وقلت : "أإن أكرمتني أكرمك " صح عنده ، فالتقدير عند يونس : آنقلبتم على أعقابكم إن مات محمد ؟ لأن الغرض إنكار انقلابهم على أعقابهم بعد موته .

وبقول يونس قال كثير من المفسرين ، فإنهم يقولون : ألف الاستفهام دخلت في غير موضعها ، لأن الغرض إنما هو : أتنقلبون إن مات محمد " . وقال أبو البقاء : " وقال يونس : الهمزة في مثل هذا حقها أن تدخل على جواب الشرط تقديره : "أتنقلبون إن مات " ؛ لأن الغرض التنبيه أو التوبيخ على هذا الفعل المشروط . ومذهب سيبويه الحق لوجهين ، أحدهما : أنك لو قدمت الجواب لم يكن للفاء وجه إذ لا يصح أن تقول : "أتزوروني فإن زرتك " ، ومنه قوله تعالى : أفإن مت فهم الخالدون ، والثاني : أن الهمزة لها صدر الكلام ، و "إن " لها صدر الكلام ، فقد وقعا في موضعهما ، والمعنى يتم بدخول الهمزة على جملة الشرط والجواب ، لأنهما كالشيء [ ص: 418 ] الواحد "انتهى . وقد رد النحويون على يونس بقوله : أفإن مت فهم الخالدون فإن الفاء في قوله : " فهم "تعين أن يكون جوابا للشرط . ولهذه المسألة موضع هو أليق بها من هذا الكتاب . وأتى هنا بـ " إن "التي تقتضي الشك ، والموت أمر محقق ، إلا أنه أورد مورد المشكوك فيه للتردد بين الموت والقتل .

قوله : على أعقابكم فيه وجهان ، أظهرهما : أنه متعلق بـ " انقلبتم " . والثاني : أنه حال من فاعل " انقلبتم "كأنه قيل : انقلبتم راجعين . وقرأ ابن أبي إسحاق : " ومن ينقلب على عقبه "بالإفراد . و " شيئا "نصب على المصدر أي : شيئا من الضرر لا قليلا ولا كثيرا . وقد تقدم نظيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية