صفحة جزء
[ ص: 438 ] آ . (153) قوله تعالى : إذ تصعدون : العامل في "إذ " قيل : مضمر أي : اذكروا . وقال الزمخشري : "صرفكم إذ ليبتليكم " . وقال أبو البقاء : "ويجوز أن تكون ظرفا لـ " عصيتم "أو " تنازعتم "أو فشلتم " . وقيل : "هو ظرف لـ " عفا عنكم " . وكل هذه الوجوه سائغة ، وكونه ظرفا لـ " صرفكم "جيد من جهة المعنى ، ولـ " عفا "جيد من جهة القرب . وعلى بعض الأقوال تكون المسألة من باب التنازع ، وتكون على إعمال الأخير منها لعدم الإضمار في الأول ، ويكون التنازع في أكثر من عاملين .

والجمهور على " تصعدون "بضم التاء وكسر العين من أصعد في الأرض إذا ذهب فيها ، والهمزة فيه للدخول نحو : " أصبح زيد "أي : دخل في الصباح ، فالمعنى : إذ تدخلون في الصعود ، ويبين ذلك قراءة أبي : " تصعدون في الوادي " . والحسن والسلمي : " تصعدون "من صعد في الجبل أي رقي ، والجمع بين القراءتين : أنهم أولا أصعدوا في الوادي ، ثم لما حزبهم العدو صعدوا في الجبل ، وهذا على رأي من يفرق بين : أصعد وصعد . وأبو حيوة : " تصعدون "بالتشديد ، وأصلها : تتصعدون ، فحذفت إحدى التاءين : إما تاء المضارعة أو تاء تفعل ، والجمع بين قراءته وقراءة غيره كما تقدم . والجمهور " تصعدون "بتاء الخطاب ، وابن محيصن - ويروى عن ابن كثير - بياء الغيبة على الالتفات وهو حسن ، ويجوز أن يعود الضمير على المؤمنين أي : والله ذو فضل على المؤمنين إذ يصعدون ، فالعامل في إذ : " فضل " .

[ ص: 439 ] يقال : أصعد : أبعد في الذهاب ، قال القتبي : " كأنه أبعد كإبعاد الارتفاع "قال الشاعر :


1466 - ألا أيهذا السائلي أين أصعدت فإن لها في أهل يثرب موعدا



وقال آخر :


1467 - قد كنت تبكين على الإصعاد     فاليوم سرحت وصاح الحادي



وقال الفراء وأبو حاتم : " الإصعاد : ابتداء السفر والمخرج ، والصعود مصدر صعد [إذا ] رقي من سفل إلى علو "ففرقوا هؤلاء بين صعد وأصعد . وقال المفضل : " صعد وصعد وأصعد بمعنى واحد ، والصعيد وجه الأرض " .

ولا تلوون الجمهور على " تلوون "بواوين . وقرئ بإبدال الأولى همزة كراهية اجتماع واوين ، وليس بقياس لكون الضمة عارضة ، والواو المضمومة تبدل همزة بشروط تقدم ذكرها في البقرة : ألا تكون الضمة عارضة كهذه الكلمة ، وألا تكون مزيدة نحو : " ترهوك " ، وألا يمكن تخفيفها نحو : " سور "و " نور "جمع سوار ونوار لأنه يمكن تسكينها فتقول : سور ونور [ ص: 440 ] فيخف اللفظ بها ، وألا يدغم فيها نحو : " تعود "مصدر تعود ، فنحو " فووج "يطرد إبداله لاستكمال الشروط .

ومعنى لا تلوون : لا ترجعون ، يقال : "لوى به " [أي ] : ذهب به ، ولوى عليه : عطف . قال :


1468 - ... ... ... ...     أخو الجهد لا يلوي على من تعذرا



وأصل تلوون : تلويون فأعل بحذف اللام ، وقد تقدم في قوله : يلوون ألسنتهم .

وقرأ الأعمش : - ورويت عن عاصم - "تلوون " بضم التاء . من ألوى وهي لغة في "لوى " ففعل وأفعل بمعنى . وقرأ الحسن : "تلون " بواو واحدة ، وخرجوها على أنه أبدل الواو همزة ، ثم نقل حركة الهمزة على اللام ثم حذف الهمزة على القاعدة ، فلم يبق من الكلمة إلا الفاء وهي اللام . وقال ابن عطية : "وحذفت إحدى الواوين للساكنين " ، وكان قد قدم أن هذه القراءة مركبة على لغة من يهمز الواو وينقل الحركة ، وهذا عجيب بعد أن يجعلها من باب نقل حركة الهمزة كيف يعود يقول : حذفت إحدى الواوين ؟ [ ص: 441 ] ويمكن تخريج قراءة الحسن على وجهين آخرين ، أحدها : أن يقال : استثقلت الضمة على الواو لأنها أختها ، فكأنه اجتمع ثلاثة واوات ، فنقلت الضمة إلى اللام فالتقى ساكنان : الواو التي هي عين الكلمة والواو التي هي ضمير ، فحذفت الأولى لالتقاء الساكنين ، ولو قال ابن عطية هكذا لكان أولى . والثاني : أن يكون "تلون " مضارع "ولي كذا " من الولاية ، وإنما عدي بـ "على " لأنه ضمن معنى العطف .

وقرأ حميد بن قيس : "على أحد " بضمتين ، يريد الجبل ، والمعنى على من في جبل أحد ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم . قال ابن عطية : "والقراءة الشهيرة أقوى لأنه لم يكن على الجبل إلا بعد ما فر الناس عنه ، وإصعادهم إنما كان وهو يدعوهم " .

قوله : والرسول يدعوكم مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال ، العامل فيها : "تلوون " .

قوله : فأثابكم فيه وجهان ، أحدهما : أنه معطوف على "تصعدون " و "تلوون " ، ولا يضر كونهما مضارعين ، لأنهما ماضيان في المعنى ، لأن "إذ " المضافة إليهما صيرتهما ماضيين ، فكأن المعنى : إذا صعدتم وألويتم . والثاني : أنه معطوف على "صرفكم " . قال الزمخشري : "فأثابكم " عطف على "صرفكم " . وفيه بعد لطول الفصل . وفي فاعله قولان ، أحدهما : أنه الباري تعالى ، والثاني : أنه النبي صلى الله عليه وسلم . قال الزمخشري : "ويجوز أن يكون الضمير في " فأثابكم "للرسول ، أي : فآساكم في الاغتمام ، وكما غمكم ما نزل به من كسر رباعيته غمه ما نزل بكم من فوت الغنيمة .

[ ص: 442 ] و " غما "مفعول ثان ، و " بغم "يجوز في الباء أوجه ، أحدها : أن تكون للسببية ، على معنى أن متعلق الغم الأول الصحابة ، ومتعلق الغم الثاني قتل المشركين يوم بدر ، والمعنى : فأثابكم غما بالغم الذي أوقعه على أيديكم بالكفار يوم بدر . وقيل : "متعلق الغم الرسول ، والمعنى : أذاقكم الله غما بسبب الغم الذي أدخلتموه على الرسول والمؤمنين بفشلكم ، أو فأثابكم الرسول ، أي : آساكم غما بسبب غم اغتممتموه لأجله . والثاني : أن تكون الباء للمصاحبة أي : غما مصاحبا لغم ، ويكون الغمان للصحابة ، فالغم الأول الهزيمة والقتل . والثاني : إشراف خالد بخيل الكفار ، أو بإرجاف قتل الرسول عليه السلام ، فعلى الأول تتعلق الباء بـ " أثابكم " . قال أبو البقاء : " وقيل : المعنى بسبب غم ، فيكون مفعولا به " . وعلى الثاني تتعلق بمحذوف ، لأنه صفة لغم ، أي : غما مصاحبا لغم ، أو ملتبسا بغم . وأجاز أبو البقاء أن تكون الباء بمعنى " بعد "أو بمعنى " بدل " ، وجعلها في هذين الوجهين صفة لـ غما " ، وكونها بمعنى "بعد " و "بدل " بعيد ، وكأنه يريد تفسير المعنى ، وكذا قال الزمخشري : "غما بعد غم " .

وقوله : فأثابكم هل هو حقيقة أو مجاز ؟ فقيل : مجاز ، كأنه جعل الغم قائما مقام الثواب الذي كان يحصل لولا الفرار ، فهو كقوله :


1469 - أخاف زيادا أن يكون عطاؤه     أداهم سودا أو محدرجة سمرا



[ ص: 443 ] وقوله :


1470 - ... ... ... ...     تحية بينهم ضرب وجيع



جعل القيود والسياط بمنزلة العطاء ، والضرب بمنزلة التحية . وقال الفراء : "الإثابة هنا بمعنى المعاقبة ، وهو يرجع إلى المجاز " .

قوله : لكيلا هذه لام "كي " ، وهي لام جر ، والنصب هنا بـ "كي " لئلا يلزم دخول حرف جر على مثله . وفي متعلق هذه اللام قولان ، أحدهما : أنه "فأثابكم " ، وفي "لا " على هذا وجهان ، أحدهما : أنها زائدة ، لأنه لا يترتب على الاغتمام انتفاء الحزن ، والمعنى : أنه غمهم ليحزنهم عقوبة لهم على تركهم مواقعهم ، قاله أبو البقاء . الوجه الثاني : أنها ليست زائدة ، فقال الزمخشري : "معناه : لكي لا تحزنوا لتتمرنوا على تجرع الغموم ، وتضروا باحتمال الشدائد فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ، ولا على مصيب في المضار " وقال ابن عطية : "المعنى : أن ما وقع بكم إنما هو بجنايتكم ، فأنتم ورطتم أنفسكم ، وعادة البشر أن يصبر للعقوبة إذا جنى ، وإنما يكثر قلقه إذا ظن البراءة من نفسه .

والثاني : أن اللام تتعلق بـ " عفا "لأن عفوه أذهب كل حزن . وفيه بعد من جهة طول الفصل .

التالي السابق


الخدمات العلمية