صفحة جزء
آ . (159) قوله تعالى : فبما : في "ما " وجهان ، أحدهما : أنها [ ص: 461 ] زائدة للتوكيد والدلالة على أن لينه لهم ما كان إلا برحمة من الله ، ونظيره : فبما نقضهم ميثاقهم . والثاني : أنها غير مزيدة ، بل هي نكرة وفيها وجهان ، أحدهما : أنها موصوفة برحمة ، أي : فبشيء رحمة والثاني : أنها غير موصوفة ، و "رحمة " بدل منها ، نقله مكي عن ابن كيسان . ونقل أبو البقاء عن الأخفش وغيره أنها نكرة غير موصوفة ، و "رحمة " بدل منها ، كأنه أبهم ثم بين بالإبدال . وجوز بعض الناس - وعزاه الشيخ لابن خطيب الري - أن "ما " استفهامية للتعجب تقديره : فبأي رحمة لنت لهم ، وذلك فإن جنايتهم لما كانت عظيمة - ثم إنه ما أظهر تغليظا في القول ولا خشونة في الكلام - علموا أن ذلك لا يتأتى إلا بتأييد رباني قبل ذلك . ورد عليه الشيخ هذا بأنه لا يخلو : إما أن تجعل "ما " مضافة إلى "رحمة " ، وهو ظاهر تقديره كما حكاه عنه ، فيلزم إضافة "ما " الاستفهامية ، وقد نصوا على أنه لا يضاف من أسماء الاستفهام إلا "أي " اتفاقا ، و "كم " عند الزجاج ، وإما أن لا تجعلها مضافة ، فتكون "رحمة " بدلا منها ، وحينئذ يلزم إعادة حرف الاستفهام في البدل كما تقرر في علم النحو ، وأنحى عليه في كلامه فقال : "وليته كان يغنيه عن هذا الارتباك والتسلق إلى ما لا يحسنه قول الزجاج في " ما "هذه إنها صلة فيها معنى التوكيد بإجماع النحويين " انتهى .

وليس لقائل أن يقول له : أن يجعلها غير مضافة ولا يجعل "رحمة " بدلا [ ص: 462 ] حتى يلزم إعادة حرف الاستفهام بل يجعلها صفة ؛ لأن "ما " الاستفهامية لا توصف ، وكأن من يدعي فيها أنها غير مزيدة يفر من هذه العبارة في كلام الله تعالى ، وإليه ذهب أبو بكر الزبيدي ، كان لا يجوز أن يقال في القرآن : "هذا زائد " أصلا . وهذا فيه نظر ، لأن القائلين بكون هذا زائدا لا يعنون أنه يجوز سقوطه ولا أنه مهمل لا معنى له ، بل يقولون : زائد للتوكيد ، فله أسوة بسائر ألفاظ التوكيد الواقعة في القرآن ، و "ما " كما تزاد بين الباء ومجرورها تزاد أيضا بين "عن " و "من " والكاف ومجرورها كما سيأتي .

وقال مكي : "ويجوز أن ترتفع " رحمة "على أن تجعل " ما "بمعنى الذي ، وتضمر " هو "في الصلة وتحذفها كما قرئ : تماما على الذي أحسن . وقوله : "ويجوز " يعني من حيث الصناعة ، وأما كونها قراءة فلا أحفظها .

والفظاظة : الجفوة في المعاشرة قولا وفعلا . قال :


1483 - أخشى فظاظة عم أو جفاء أخ وكنت أخشى عليها من أذى الكلم



والغـلظ : تكثير الأجزاء ، ثم تجوز به في عدم الشفقة وكثرة القسوة في القلب قال :

[ ص: 463 ]

1484 - يبكى علينا ولا نبكي على أحد     لنحن أغلظ أكبادا من الإبل



وقال الراغب : الفظ كريه الخلق وذلك مستعار من الفظ وهو ماء الكرش ، وذلك مكروه شربه إلا في ضرورة " ، قال : " الغلظة : ضد الرقة ، ويقال : غلظة وغلظة أي بالكسر والضم "وعن الغلظة تنشأ الفظاظة فلم قدمت ؟ فقيل : قدم ما هو ظاهر للحس على ما هو خاف في القلب ، لأنه كما تقدم أن الفظاظة : الجفوة في العشرة قولا وفعلا ، والغلظ : قساوة القلب ، وهذا أحسن من قول من جعلهما بمعنى ، وجمع بينهما تأكيدا .

والانفضاض : التفرق في الأجزاء وانتشارها ومنه : " فض ختم الكتاب "ثم استعير عنه " انفضاض الناس "ونحوهم .

وقوله : فاعف عنهم إلى آخره جاء على أحسن النسق ، وذلك أنه أمر أولا بالعفو عنهم فيما يتعلق بخاصة نفسه ، فإذا انتهوا إلى هذا المقام أمر أن يستغفر لهم ما بينهم وبين الله تعالى لتنزاح عنهم التبعتان ، فلما صاروا إلى هذا أمر بأن يشاورهم في الأمر إذا صاروا خالصين من التبعتين مصفين منهما ، والأمر هنا وإن كان عاما فالمراد به الخصوص ، قال أبو البقاء : " إذ لم يؤمر بمشاورتهم في الفرائض ، ولذلك قرأ ابن عباس : "في بعض الأمر " . وهذا تفسير لا تلاوة .

وقوله : فإذا عزمت الجمهور على فتح التاء خطابا له عليه السلام . وقرأ عكرمة وجعفر الصادق بضمها ، على أنها لله تعالى على معنى : فإذا [ ص: 464 ] أرشدتك إليه وجعلتك تقصده ، وجاء قوله : على الله من الالتفات ، إذ لو جاء على نسق هذا الكلام لقيل : فتوكل علي ، وقد نسب العزم إليه تعالى في قول أم سلمة : " ثم عزم الله لي " وذلك على سبيل المجاز .

وقوله : إن الله يحب المتوكلين جار مجرى العلة الباعثة على التوكيل عند الأخذ في كل الأمر .

التالي السابق


الخدمات العلمية