صفحة جزء
آ . (167) قوله تعالى : وقيل لهم تعالوا قاتلوا : هذه الجملة تحتمل وجهين ، أحدهما : أن تكون استئنافية ، أخبر الله أنهم مأمورون : إما بالقتال وإما بالدفع أي : تكثير سواد المسلمين : والثاني : أن تكون معطوفة على "نافقوا " ، فتكون داخلة في حيز الموصول أي : وليعلم الذين حصل منهم النفاق والقول بكذا ، و "تعالوا " "وقاتلوا " كلاهما قائم مقام الفاعل لـ "قيل " لأنه هو المقول ، وقد تقدم ما فيه . قال أبو البقاء : "وإنما لم يأت بحرف العطف - يعني بين تعالوا وقاتلوا - لأنه قصد أن تكون كل من الجملتين مقصودة بنفسها ، ويجوز أن يقال إن المقصود هو الأمر بالقتال ، و " تعالوا "ذكر ما لو سكت عنه لكان في الكلام ما يدل عليه ، وقيل : الأمر الثاني حال " . يعني بقوله : "وتعالوا ذكر ما لو سكت " أي : المقصود إنما هو أمرهم بالقتال لا مجيئهم وحده ، وجعله "قاتلوا " حالا من "تعالوا " فاسد ؛ لأن الجملة الحالية يشترط أن تكون خبرية وهذه طلبية .

قوله : أو ادفعوا "أو " هنا على بابها من التخيير والإباحة . وقيل : بمعنى الواو لأنه طلب منهم القتال والدفع ، والأول هو الصحيح . وقوله : "قالوا لو نعلم " إنما لم يأت في هذه الجملة بحرف عطف لأنها جواب لسؤال سائل : كأنه قيل : فما قالوا لما قيل لهم ذلك ؟ فأجيب بأنهم قالوا ذلك . و "نعلم " وإن كان مضارعا فمعناه المضي لأن "لو " تخلص المضارع - إذ كانت لما سيقع لوقوع غيره - [للمضي ] . ونكر "قتالا " أي : لو علمنا بعض قتال ما .

[ ص: 477 ] قوله : هم للكفر يومئذ أقرب "هم " مبتدأ و "أقرب " خبره ، وهو أفعل تفضيل ، و "للكفر " متعلق به ، وكذلك "للإيمان " . فإن قيل : "لا يتعلق حرفا جر متحدان لفظا ومعنى بعامل واحد ، إلا أن يكون أحدهما معطوفا على الآخر أو بدلا منه ، فكيف تعلقا بـ أقرب " ؟ فالجواب أن هذا خاص بأفعل التفضيل قالوا : لأنه في قوة عاملين ، فإن قولك : "زيد أفضل من عمرو " معناه : يزيد فضله على فضل عمر . وقال أبو البقاء : "وجاز أن يعمل " أقرب "فيهما لأنهما يشبهان الظرف ، وكما عمل " أطيب "في قولهم : " هذا بسرا أطيب منه رطبا "في الظرفين المقدرين ، لأن " أفعل "يدل على معنيين : على أصل الفعل وزيادته ، فيعمل في كل واحد منهما بمعنى غير الآخر ، فتقديره : يزيد قربهم إلى الكفر على قربهم إلى الإيمان " . ولا حاجة إلى تشبيه الجارين بالظرفين ، لأن ظاهره أن المسوغ لتعلقهما بعامل واحد شبههما بالظرفين ، وليس كذلك ، وقوله : "الظرفين المقدرين " يعني أن المعنى : هذا في أوان بسريته أطيب منه أوان رطبيته .

و "أقرب " هنا من القرب الذي هو ضد البعد ، ويتعدى بثلاثة حروف : اللام و "إلى " و "من " ، تقول : قربت لك وإليك ومنك ، فإذا قلت : "زيد أقرب من العلم من عمرو " فـ "من " الأولى المعدية لأصل معنى القرب ، والثانية هي الجارة للمفضول . وإذا تقرر هذا فلا حاجة إلى ادعاء أن اللام بمعنى إلى .

و "يومئذ " متعلق بـ "أقرب " ، وكذا "منهم " ، و "من " هذه هي الجارة للمفضول بعد أفعل ، وليست هي المعدية لأصل الفعل . ومعنى هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان أنهم كانوا قبل هذا الوقت كاتمين للنفاق ، فكانوا [ ص: 478 ] في الظاهر أبعد من الكفر ، فلما ظهر منهم ما كانوا يكتمونه صاروا أقرب للكفر .

و "إذ " مضافة لجملة محذوفة عوض منها التنوين كما تقدم تقريره ، وتقدير هذه الجملة ، "هم للكفر يوم إذ قالوا : لو نعلم قتالا لاتبعناكم " وقيل : المعنى على حذف مضاف أي : هم لأهل الكفر أقرب لأهل الإيمان . وفضلوا هنا على أنفسهم باعتبار حالين ووقتين . ولولا ذلك لم يجز . تقول : "زيد قاعدا أفضل منه قائما " أو : "زيد قاعدا اليوم أفضل منه قاعدا غدا " ولو قلت : "زيد اليوم قاعدا أفضل منه اليوم قاعدا " لم يجز .

وحكى النقاش عن بعض المفسرين أن "أقرب " هنا ليست من معنى القرب الذي هو ضد البعد ، وإنما هي من القرب بفتح القاف والراء ، وهو طلب الماء ، ومنه "قارب الماء " ، ليلة القرب : ليلة الورود ، فالمعنى : هم أطلب للكفر ، وعلى هذا فتتعين التعدية باللام ، على حد قولك : "زيد أضرب لعمرو " .

قوله : يقولون بأفواههم في هذه الجملة وجهان ، أحدهما : أنها مستأنفة لا محل لها . والثاني : أنها في محل نصب على الحال من الضمير في : "أقرب " أي : قربوا للكفر قائلين هذه المقالة . وقوله : "بأفواههم " قيل : تأكيد كقوله : ولا طائر يطير بجناحيه . والظاهر أن القول يطلق على اللساني والنفساني فتقييده بأفواههم تقييد لأحد محتملين ، اللهم إلا أن يقال : إن إطلاقه على النفساني مجاز . قال الزمخشري : "وذكر القلوب مع الأفواه تصوير لنفاقهم ، وأن إيمانهم موجود في أفواههم فقط " وبهذا الذي قاله الزمخشري ينتفي كونه للتأكيد لتحصيله هذه الفائدة .

التالي السابق


الخدمات العلمية