صفحة جزء
آ . (178) قوله تعالى : ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي ؛ قرأ الجمهور "يحسبن " بالغيبة ، وحمزة بالخطاب ، وحكى الزجاج عن خلق كثير كقراءة حمزة إلا أنهم كسروا "إنما " ونصبوا "خيرا " وأنكرها ابن مجاهد ، وسيأتي إيضاح ذلك ، ويحيى بن وثاب بالغيبة وكسر "إنما " ، وحكى عنه الزمخشري أيضا أنه قرأ بكسر "إنما " الأولى وفتح الثانية مع الغيبة . فهذه خمس قراءات .

فأما قراءة الجمهور فتخريجها واضح ، وهو أنه يجوز أن يكون الفعل مسندا إلى "الذين " ، و "أن " وما اتصل بها ساد مسد المفعولين عند سيبويه ومسد أحدهما والآخر محذوف عند الأخفش حسبما تقدم غير مرة . ويجوز أن يكون مسندا إلى ضمير غائب يراد به النبي صلى الله عليه وسلم أي : ولا يحسبن النبي عليه السلام ، فعلى هذا يكون "الذين كفروا " مفعولا أول ، وأما الثاني فسيأتي الكلام عليه في قراءة حمزة ، فتتحد هذه القراءة على هذا الوجه مع قراءة حمزة - رحمه الله - ، وسيأتي تخريجها . و "ما " يجوز أن [ ص: 497 ] تكون موصولة اسمية ، فيكون العائد محذوفا لاستكمال الشروط ، أي : أن الذي نمليه ، وأن تكون مصدرية أي : إملاءنا ، وهي اسم "أن " و "خير " خبرها . قال أبو البقاء : "ولا يجوز أن تكون كافة ولا زائدة ، إذ لو كانت كذلك لانتصب " خير " بـ " نملي " ، واحتاجت " أن "إلى خبر إذا كانت " ما "زائدة ، أو قدر الفعل يليها ، وكلاهما ممتنع " . انتهى . وهو من الواضحات ، وكتبوا "أنما " في الموضعين متصلة ، وكان من حق الأولى الفصل لأنها موصولة .

وأما قراءة حمزة فاضطربت فيها أقوال الناس وتخاريجهم حتى إنه نقل عن أبي حاتم أنها لحن . قال النحاس : "وتابعه على ذلك خلق كثير " وهذا لا يلتفت إليه لتواترها . وفي تخريجها ستة أوجه ، أحدها : أن يكون فاعل "تحسبن " ضمير النبي صلى الله عليه وسلم ، و الذين كفروا مفعول أول ، و أنما نملي لهم خير مفعول ثان . ولا بد على هذا التخريج من حذف مضاف : أما من الأول تقديره : "ولا تحسبن شأن الذين كفروا " ، وإما من الثاني تقديره : "أصحاب أن إملاءنا خير لهم " ، وإنما احتجنا إلى هذا التأويل ؛ لأن "أنما نملي " بتأويل مصدر ، والمصدر معنى من المعاني لا يصدق على الذين كفروا ، والمفعول الثاني في هذا الباب هو الأول في المعنى .

الثاني : أن يكون أنما نملي لهم بدل من الذين كفروا وإلى هذا ذهب الكسائي والفراء وتبعهما جماعة منهم الزمخشري والزجاج وابن الباذش . قال الكسائي والفراء : "وجه هذه القراءة التكرير والتأكيد ، والتقدير : ولا تحسبن الذين كفروا ولا تحسبن أنما نملي " . قال الفراء : "ومثله : هل [ ص: 498 ] ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم أي : ما ينظرون إلا أن تأتيهم " انتهى . وقد رد بعضهم قول الكسائي والفراء بأن حذف المفعول الثاني في هذه الأفعال لا يجوز عند أحد ، وهذا الرد ليس بشيء ، لأن الممنوع إنما هو حذف الاقتصار ، وقد تقدم تحقيق ذلك . وقال ابن الباذش : "ويكون المفعول الثاني حذف لدلالة الكلام عليه ، ويكون التقدير : " ولا تحسبن الذين كفروا خيرية إملائنا لهم ثابتة أو واقعة " .

وقال الزمخشري : " فإن قلت : كيف صح مجيء البدل ولم يذكر إلا أحد المفعولين ، ولا يجوز الاقتصار من فعل الحسبان على مفعول واحد ؟ قلت : صح ذلك من حيث إن التعويل على البدل ، والمبدل منه في حكم المنحى ، ألا تراك تقول : "جعلت متاعك بعضه فوق بعض " مع امتناع سكوتك على "متاع " .

وهل البدل بدل اشتمال - وهو الظاهر- أو بدل كل من كل فيكون على حذف مضاف تقديره : "ولا تحسبن إملاء الذين " فحذف "إملاء " وأبدل منه "أنما نملي " ؟ قولان مشهوران .

الثالث : -وهو أغربها - أن يكون "الذين " فاعلا بـ "تحسبن " على تأويل أن تكون التاء في الفعل للتأنيث كقوله : كذبت قوم نوح أي : "ولا تحسبن القوم الذين كفروا " و "الذين " وصف "القوم " كقوله : وأورثنا القوم الذين كانوا فعلى هذا تتحد هذه القراءة مع قراءة الغيبة ، وتخريجها كتخريجها ، ذكر ذلك أبو القاسم الكرماني في تفسيره المسمى : [ ص: 499 ] بـ "اللباب " . وفيه نظر من حيث إن "الذين " جار مجرى جمع المذكر السالم ، والجمع المذكر السالم لا يجوز تأنيث فعله عند البصريين ، لا يجوز : قامت الزيدون ، ولا : تقوم الزيدون . وأما اعتذاره عن ذلك بأن "الذين " صفة للقوم الجائز تأنيث فعلهم وإنما حذف فلا ينفعه ، لأن الاعتبار إنما هو بالملفوظ به لا بالمقدر ، لا يجيز أحد من البصريين : "قامت المسلمون " على إرادة "القوم المسلمون " البتة . وقال أبو الحسن الحوفي : "أن وما عملت فيه في موضع نصب على البدل ، و " الذين "المفعول الأول ، والثاني محذوف " ، وهو معنى قول الزمخشري المتقدم .

الرابع : أن يكون أنما نملي لهم بدلا من الذين كفروا بدل الاشتمال أي : إملاءنا ، و "خير " بالرفع خبر مبتدأ محذوف أي : هو خير لأنفسهم ، والجملة هي المفعول الثاني . نقل ذلك الشيخ شهاب الدين أبو شامة عن بعضهم ، قال : قلت : ومثل هذه القراءة بيت الحماسة :


1496 - منا الأناة وبعض القوم يحسبنا أنا بطاء وفي إبطائنا سرع



كذا جاءت الرواية بفتح "أنا " بعد ذكر المفعول الأول ، فعلى هذا يجوز أن تقول : "حسبت زيدا أنه قائم " أي : حسبته ذا قيام ، فوجه الفتح أنها وقعت مفعولة ، وهي وما عملت فيه في موضع مفرد وهو المفعول الثاني لحسبت "انتهى . وفيما قاله نظر ؛ لأن النحاة نصوا على وجوب كسر " إن "إذا وقعت مفعولا ثانيا والأول اسم عين ، وأنشدوا البيت المذكور على ذلك ، وعللوا وجوب الكسر بأنا لو فتحنا لكانت في محل مصدر فيلزم الإخبار بالمعنى عن العين .

[ ص: 500 ] الخامس : أن يكون الذين كفروا مفعولا أول ، و إنما نملي لهم ليزدادوا إثما في موضع المفعول الثاني ، و أنما نملي لهم خير مبتدأ وخبر ، اعترض به بين مفعولي " وتحسبن " ، وفي الكلام تقديم وتأخير ، نقل ذلك عن الأخفش . قال أبو حاتم : " سمعت الأخفش يذكر فتح "أن " يحتج بها لأهل القدر لأنه كان منهم ، ويجعله على التقديم والتأخير ، كأنه قال : "ولا تحسبن الذين [كفروا ] إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ، أنما نملي لهم خير لأنفسهم " انتهى . وإنما جاز أن تكون "أن " المفتوحة مبتدأ بها أول الكلام لأن مذهب الأخفش ذلك ، وغيره يمنع ذلك ، فإن تقدم خبرها عليها نحو : "في ظني أنك منطلق " أو أما التفصيلية نحو : "أما أنك منطلق فعندي " جاز ذلك إجماعا ، وقول أبي حاتم : "يذكر فتح أن " يعني بها التي في قوله : أنما نملي لهم خير . ووجه تمسك القدرية به أن الله تعالى لا يجوز أن يملي لهم إلا ما هو خير لأنفسهم ، لأنه يجب عندهم رعاية الأصلح .

[السادس : قال المهدوي : "وقال قوم ] قدم الذين كفروا توكيدا ، ثم حالهم من قوله : أنما نملي لهم ردا عليهم ، والتقدير : ولا تحسبن أن إملاءنا للذين كفروا خير لأنفسهم " انتهى .

وأما قراءة يحيى بكسر "إنما " مع الغيبة فلا يخلو : إما أن يجعل الفعل مسندا إلى "الذين " أو إلى ضمير غائب ، فإن كان الأول كانت "إنما " وما في حيزها معلقة لـ "يحسبن " وإن لم تكن اللام في خبرها لفظا فهي مقدرة ، فتكون "إنما " بالكسر في موضع نصب ؛ لأنها معلقة لفعل الحسبان مع نية اللام ، [ ص: 501 ] ونظير ذلك تعليق أفعال القلوب عن المفعولين الصريحين لتقدير لام الابتداء في قوله :


1497 - كذاك أدبت حتى صار من خلقي     إني رأيت ملاك الشيمة الأدب



فلولا تقدير اللام لوجب نصب "ملاك " و "الأدب " ، وكذلك في الآية ، لولا تقدير اللام لوجب فتح "إنما " ، ويجوز أن يكون المفعول الأول قد حذف وهو ضمير الأمر والشأن ، وقد قيل بذلك في البيت وهو الأحسن فيه ، والأصل : ولا يحسبنه أي : الأمر ، و "إنما نملي " في موضع المفعول الثاني وهي المفسرة للضمير .

وإن كان الثاني كان "الذين " مفعولا أول ، و "إنما نملي " في موضع الثاني .

وأما قراءته التي حكاها عنه الزمخشري فقد خرجها هو فقال : "على معنى : ولا يحسبن الذين كفروا أن إملاءنا لازدياد الإثم كما يفعلون ، وإنما هو ليتوبوا ويدخلوا في الإيمان ، وقوله أنما نملي لهم خير لأنفسهم اعتراض بين الفعل ومعموله ، معناه : أن إملاءنا خير لأنفسهم إن عملوا فيه وعرفوا إنعام الله عليهم بتفسيح المدة وترك المعاجلة بالعقوبة " انتهى . فعلى هذا يكون "الذين " فاعلا ، و "أنما " المفتوحة سادة مسد المفعولين أو أحدهما على الخلاف ، واعترض بهذه الجملة بين الفعل ومعموله . قال النحاس : "وقراءة يحيى بن وثاب بكسر إن " حسنة ، كما تقول : "حسبت عمرا أبوه خارج " .

[ ص: 502 ] وأما ما حكاه الزجاج قراءة عن خلق كثير وهو نصب "خيرا " على الظاهر من كلامه فقد ذكر هو تخريجها على أن "أنما نملي لهم خيرا لأنفسهم "بدل من "الذين " و "خيرا " مفعول ثان . ولا بد من إيراد نصه ليظهر لك ، قال رحمه الله : "من قرأ " ولا تحسبن "بالتاء لم يجز عن البصريين إلا كسر " إن "والمعنى : لا تحسبن الذين كفروا إملاؤنا خير لهم ، ودخلت " إن "مؤكدة ، فإذا فتحت صار المعنى : ولا تحسبن الذين كفروا إملاءنا خيرا لهم قال : " وهو عندي يجوز في هذا الموضع على البدل من "الذين " المعنى : ولا تحسبن إملاءنا للذين كفروا خيرا لهم ، وقد قرأ بها خلق كثير ، ومثل هذه القراءة من الشعر :


1498 - فما كان قيس هلكه هلك واحد     ولكنه بنيان قوم تهدما



جعل "هلكه " بدلا من "قيس " المعنى : فما كان هلك قيس هلك واحد يعني : "فهلك " الأول بدل من المرفوع ، فبقي "هلك واحد " منصوبا خبرا لـ "كان " ، كذلك أنما نملي لهم : "أن " واسمها - وهو "ما " الموصولة - وصلتها والخبر - وهو "لهم " - في محل نصب بدلا من الذين كفروا ، فبقي "خيرا " منصوبا على أنه مفعول ثان لـ "تحسبن " .

إلا أن الفارسي قد رد هذا على أبي إسحاق بأن هذه القراءة لم يقرأ بها أحد - أعني نصب "خيرا " - قال أبو علي الفارسي : "لا يصح البدل [ ص: 503 ] إلا بنصب " خير "من حيث كان المفعول الثاني لـ " حسبت " ، فكما انتصب " هلك واحد "في البيت لما أبدل الأول من " قيس "بأنه خبر لكان كذلك ينتصب " خيرا لهم "إذا أبدل الإملاء من الذين كفروا بأنه مفعول ثان لتحسبن " قال : "وسألت أحمد بن موسى عنها فزعم أن أحدا لم يقرأ بها " يعني بأحمد هذا أبا بكر بن مجاهد الإمام المشهور . وقال في "الحجة " له : "الذين كفروا في موضع نصب بأنها المفعول الأول ، والمفعول الثاني هو الأول في هذا الباب في المعنى ، فلا يجوز إذا فتح " أن "في قوله : أنما نملي لهم لأن إملاءهم لا يكون إياهم " قال : "فإن قلت : لم لا يجوز الفتح في " أن "وتجعلها بدلا من الذين كفروا كقوله : وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره وكما كان " أن "من قوله تعالى : وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم . قيل : لا يجوز ذلك ، وإلا لزمك أن تنصب " خيرا "على تقدير : لا تحسبن إملاء الذين كفروا خيرا لأنفسهم ، حيث كان المفعول الثاني لـ " تحسبن " ، وقيل : إنه لم يقرأ به أحد ، فإذا لم ينصب علم أن البدل فيه لا يصح وإذا لم يصح البدل لم يجز إلا كسر " إن "على أن تكون " إن "وخبرها في موضع المفعول الثاني من " تحسبن "انتهى ما رد به عليه ، فلم يبق إلا الترجيح بين نقل هذين الرجلين ، أعني الزجاج وابن مجاهد ، ولا شك أن ابن مجاهد أعنى بالقراءات ، إلا أن الزجاج ثقة ، ويقول : " قرأ بها خلق كثير " ، وهذا يبعد غلطه فيه ، والإثبات مقدم على النفي . وما ذكره أبو علي من قوله : " وإذا لم يجز البدل لم يجز إلا كسر إن "إلى آخره ، هذا أيضا مما لم يقرأ به أحد . قال مكي : " وجه القراءة لمن قرأ بالتاء - يعني بتاء الخطاب - أن يكسر "إنما " فتكون الجملة في موضع المفعول الثاني ولم يقرأ به أحد علمته " .

[ ص: 504 ] وقد نقل أبو البقاء نصب " خيرا "قراءة شاذة قال : " وقد قرئ شاذا بالنصب على أن يكون "لأنفسهم " خبر "أن " ، و "لهم " تبيين أو حال من "خيرا " يعني أنه لما جعل لأنفسهم الخير جعل "لهم " : إما تبيينا تقديره : أعني لهم ، وإما حالا من النكرة المتأخرة ، لأنه كان في الأصل صفة لها ، والظاهر على هذه القراءة ما قدمته من كون "لهم " هو الخبر ، ويكون "لأنفسهم " في محل نصب صفة لـ "خيرا " كما كان صفة له في قراءة الجمهور ، ونقل أيضا قراءة كسر "إن " وهي قراءة يحيى ، وخرجها على أنها جواب قسم محذوف ، والقسم وجوابه يسد مسد المفعولين ولا حاجة إلى ذلك ، بل تخريجها على ما تقدم أولى ، لأن الأصل عدم الحذف .

والإملاء : الإمهال والمد في العمر ، ومنه : "ملاوة الدهر " للمدة الطويلة ، والملوان : الليل والنهار ، وقولهم "ملاك الله بنعمة " أي : منحكها عمرا طويلا . وقيل : الملوان : تكرر الليل والنهار وامتدادهما ، بدليل إضافتهما إليهما في قول الشاعر :


1499 - نهار وليل دائم ملواهما     على كل حال المرء يختلفان



فلو كانا الليل والنهار لما أضيفا إليهما ، إذ الشيء لا يضاف إلى نفسه . وقوله : أنما نملي لهم أصل الياء واو ، وإنما قلبت ياء لوقوعها رابعة .

قوله : إنما نملي لهم ليزدادوا قد تقدم أن يحيى بن وثاب قرأ بكسر الأولى وفتح هذه ، فيما نقله عنه الزمخشري ، وتقدم تخريجها ، إلا أن الشيخ [ ص: 505 ] قال : "إنه لم يحكها عنه غير الزمخشري ، بل الذين نقلوا قراءة يحيى إنما نقلوا كسره للأولى فقط " قال : "وإنما الزمخشري لولوعه بمذهبه يروم رد كل شيء إليه " . وهذا تحامل عليه لأنه ثقة لا ينقل ما لم يرو .

وأما على قراءة كسرها ففيها وجهان ، أحدهما : أنها جملة مستأنفة تعليل للجملة قبلها كأنه قيل : ما بالهم يحسبون الإملاء خيرا ؟ فقيل : إنما نملي لهم ليزدادوا إثما . و "إن " هنا مكفوفة بـ "ما " ، ولذلك كتبت متصلة على الأصل ، ولا يجوز أن تكون موصولة اسمية ولا حرفية ؛ لأن لام كي لا يصح وقوعها خبرا للمبتدأ ولا لنواسخه .

والوجه الثاني : أن هذه الجملة تكرير للأولى . قال أبو البقاء : "وقيل " أنما "تكرير للأول ، و " ليزدادوا "هو المفعول الثاني لـ " تحسبن "هذا على قراءة التاء ، والتقدير : لا تحسبن يا محمد إملاء الذين كفروا خيرا ليزدادوا إثما ، بل ليزدادوا إيمانا ، ويروى أن بعض الصحابة قرأه كذلك " انتهى . قلت : وفي هذا نظر من حيث إنه جعل "ليزدادوا " هو المفعول الثاني ، وقد تقدم أن لام "كي " لا تقع خبرا للمبتدأ ولا لنواسخه ، ولأن هذا إنما يتم له على تقدير فتح الثانية ، وقد تقدم أن أحدا لم ينقلها إلا الزمخشري عن يحيى ، والذي يقرأ "تحسبن " بتاء الخطاب لا يفتحها البتة .

واللام في "ليزدادوا " فيها وجهان : أحدهما : أنها لام كي ، والثانية أنها لام الصيرورة .

وقوله : ولهم عذاب في هذه الواو قولان ، أحدهما : أنها للعطف ، والثاني : أنها للحال . وظاهر قول الزمخشري أنها للحال في قراءة يحيى ابن [ ص: 506 ] وثاب فقط ، فإنه قال "فإن قلت : ما معنى هذه القراءة ؟ - يعني على قراءة يحيى التي نقلها هو عنه - قلت : معناه " ولا يحسبن أن إملاءنا لزيادة الإثم والتعذيب ، والواو للحال ، كأنه قيل : ليزدادوا إثما معدا لهم عذاب مهين "قال الشيخ : - بعد ما ذكر من إنكاره عليه نقل فتح الثانية عن يحيى كما قدمته لك - " ولما قرر في هذه القراءة أن المعنى على نهي الكافر أن يحسب أنما يملي الله لزيادة الإثم ، وأنه إنما يملي لزيادة الخير كان قوله : ولهم عذاب مهين يدفع هذا التفسير ، فخرج ذلك على أن الواو للحال ليزول هذا التدافع الذي بين هذه القراءة وبين آخر الآية " .

وأصل "ليزدادوا " : ليزتادوا بالتاء ، لأنه افتعال من الزيادة ولكن تاء الافتعال تقلب دالا بعد ثلاثة أحرف : الزاي والذال والدال نحو : ادكر وادان . والفعل هنا متعد لواحد وكان في الأصل متعديا لاثنين نحو :فزادهم الله مرضا ، ولكنه بالافتعال ينقص أبدا مفعولا ، فإن كان الفعل قبل بنائه على افتعل للمطاوعة متعديا لواحد صار قاصرا بعد المطاوعة نحو "مددت الحبل فامتد " ، وإن كان متعديا لاثنين صار بعد الافتعال متعديا لواحد كهذه الآية .

وختمت كل واحدة من هذه الآيات الثلاث بصفة للعذاب غير ما ختمت به الأخرى لمعنى مناسب ، وهو أن الأولى تضمنت الإخبار عنهم بالمسارعة في الكفر ، والمسارعة في الشيء والمبادرة إلى تحصيله تقتضي جلالته وعظمته ، فجعل جزاؤهم "عذاب عظيم " مقابلة لهم ، ويدل ذلك على خساسة ما سارعوا فيه . وأما الثانية فتضمنت اشتراءهم الكفر بالإيمان ، والعادة سرور المشتري واغتباطه بما اشتراه ، فإذا خسر تألم ، فختمت هذه الآية بألم العذاب [ ص: 507 ] كما يجد المشتري المغبون ألم خسارته . وأما الثالثة فتضمنت الإملاء وهو الإمتاع بالمال وزينة الدنيا ، وذلك يقتضي التعزز والتكبر والجبروت فختمت هذه الآية بما يقتضي إهانتهم وذلتهم بعد عزهم وتكبرهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية