صفحة جزء
آ . (180) قوله تعالى : ولا يحسبن الذين يبخلون : قرأ حمزة بالخطاب ، والباقون بالغيبة . فأما قراءة حمزة فـ "الذين " مفعول أول ، و "خيرا " هو الثاني ، ولا بد من حذف مضاف ليصدق الخبر على المبتدأ ، تقديره : ولا تحسبن بخل الذين يبخلون . قال أبو البقاء : "وهو ضعيف لأن فيه إضمار البخل قبل ذكر ما يدل عليه " وفيه نظر ، لأن الدلالة على المحذوف قد تكون متقدمة وقد تكون متأخرة ، وليس هذا من باب الإضمار في شيء حتى يشترط فيه تقدم ما يدل على ذلك الضمير .

و "هو " فيه وجهان ، أحدهما : أنه فصل بين مفعولي "تحسبن " . والثاني - قاله أبو البقاء - : أنه توكيد ، وهو خطأ ، لأن المضمر لا يؤكد المظهر ، والمفعول الأول اسم مظهر ولكنه حذف كما تقدم ، وبعضهم يعبر عنه فيقول : "أضمر المفعول الأول " يعني حذف فلا يغتر بهذه العبارة ، و "هو " في هذه المسألة يتعين فصليته لأنه لا يخلو : إما أن يكون مبتدأ أو بدلا أو توكيدا ، والأول منتف لنصب ما بعده - وهو خيرا - وكذا الثاني لأنه كان يلزم أن يوافق ما قبله في الإعراب فكان ينبغي أن يقال إياه لا "هو " ، وكذا الثالث لما تقدم .

وأما قراءة الجماعة فيجوز فيها أن يكون الفعل مسندا إلى ضمير غائب : [ ص: 511 ] إما الرسول أو حاسب ما ، ويجوز أن يكون مسندا إلى "الذين " ، فإن كان مسندا إلى ضمير غائب فـ "الذين " مفعول أول على حذف مضاف كما تقدم ذلك في قراءة حمزة أي : بخل الذين ، والتقدير : ولا يحسبن الرسول - أو أحد - بخل الذين يبخلون خيرا . و "هو " فصل كما تقدم ، فتتحد القراءاتان معنى وتخريجا . وإن كان مسندا لـ "الذين " ففي المفعول الأول وجهان ، أحدهما : أنه محذوف لدلالة "يبخلون " عليه كأنه قيل : "ولا يحسبن الباخلون بخلهم هو خيرا لهم " و "هو " فصل . قال ابن عطية : "ودل على هذا البخل " يبخلون "كما دل " السفيه "على " السفه "في قوله :


1501 - إذا نهي السفيه جرى إليه وخالف والسفيه إلى خلاف



أي : جرى إلى السفه " . قال الشيخ : "وليست الدلالة فيها سواء لوجهين ، أحدهما : أن دلالة الفعل على المصدر أقوى من دلالة اسم الفاعل عليه وأكثر ، ولا يوجد ذلك إلا في هذا البيت أو غيره إن ورد . الثاني : أن البيت فيه إضمار لا حذف ، والآية فيها حذف .

الوجه الثاني : أن المفعول نفس " هو " ، وهو ضمير البخل الذي دل عليه " يبخلون "كقوله :

اعدلوا هو أقرب للتقوى ، قاله أبو البقاء ، وهو غلط أيضا ؛ لأنه ينبغي أن يأتي به بصيغة المنصوب فيقول : "إياه " لكونه منصوبا بـ "يحسبن " ، ولا ضرورة بنا إلى أن ندعي أنه من باب استعارة ضمير الرفع [ ص: 512 ] مكان النصب كقولهم "ما أنا كأنت ، ولا أنت كأنا " فاستعار ضمير الرفع مكان ضمير الجر .

وفي الآية وجه آخر غريب خرجه الشيخ قال : "وهو أن تكون المسألة من باب الإعمال إذا جعلنا الفعل مسندا لـ " الذين " ، وذلك أن " يحسبن "يطلب مفعولين و " يبخلون "يطلب مفعولا بحرف جر ، فقوله : " ما آتاهم الله من فضله" يطلبه " يحسبن "مفعولا أول ويكون " هو "فصلا ، و " خيرا "المفعول الثاني ، ويطلبه " يبخلون "بتوسط حرف الجر ، فأعمل الثاني - على الأفصح وعلى ما جاء في القرآن - وهو " يبخلون "فعدي بحرف الجر ، وأخذ معموله ، وحذف معمول " يحسبن "الأول وبقي معموله الثاني ، لأنه لم يتنازع فيه ، وإنما جاء التنازع في الأول ، وساغ حذفه وحده كما ساغ حذف المفعولين في مسألة سيبويه : " متى رأيت أو قلت : زيد منطلق "فـ " رأيت "و " قلت "تنازعا في " زيد منطلق "وفي الآية لم يتنازعا إلا في الأول ، وتقدير المعنى : " ولا يحسبن ما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم الناس الذي يبخلون به "فعلى هذا التقدير يكون " هو "فصلا لـ " ما آتاهم "المحذوف لا لبخلهم المقدر في قول الجماعة ، ونظير هذا التركيب : " ظن الذي مر بهند هي المنطلقة "المعنى : ظن هندا الشخص الذي مر بها هي المنطلقة " فالذي تنازعه الفعلان هو المفعول الأول ، فأعمل الفعل الثاني فيه ، وبقي الأول يطلبه محذوفا ويطلب الثاني مثبتا إذ لم يقع فيه التنازع . انتهى " .

ومع غرابة هذا التخريج وتطويله بالنظير والتقدير فيه نظر ، وذلك أن النحويين نصوا على أنه إذا أعملنا الثاني ، واحتاج الأول إلى ضمير المتنازع [ ص: 513 ] فيه ، فإن كان يطلبه مرفوعا أضمر فيه وإن كان يطلبه غير مرفوع حذف ، إلا أن يكون أحد مفعولي " ظن "فلا يحذف ، بل يضمر ويؤخر ، وعللوا ذلك بأنه لو حذف لبقي خبر دون مخبر عنه أو بالعكس ، هذا مذهب البصريين ، وفيه بحث ، فإن لقائل أن يقول : حذف اختصارا لا اقتصارا ، وأنتم تجيزون حذف إحداهما اختصارا في غير التنازع فليجز في تنازع إذ لا فارق ، وحينئذ يقوى تخريج الشيخ بهذا البحث أو يلتزم القول بمذهب الكوفيين فإنهم يجيزون الحذف فيما نحن فيه .

وذكر مكي ترجيح كل من القراءتين فقال :

وميراث مصدر كالميعاد ، وياؤه من واو ، قلبت لانكسار ما قبلها وهي ساكنة لأنها من الوارثة كالميقات والميزان من الوقت والوزن .

وقرأ أبو عمرو وابن كثير : " يعملون "بالغيبة جريا على قوله : الذين يبخلون ، والباقون بالخطاب ، وفيه وجهان ، أحدهما : أنه التفات ، فالمراد الذي يبخلون . والثاني : ردا على قوله : وإن تؤمنوا وتتقوا .

التالي السابق


الخدمات العلمية