صفحة جزء
آ . (188) قوله تعالى : لا تحسبن الذين يفرحون : قرأ ابن كثير وأبو عمرو : "تحسبن - فلا يحسبنهم - " بالياء فيهما ورفع باء "يحسبنهم " . وقرأ الكوفيون بتاء الخطاب وفتح الباء فيهما معا ، ونافع وابن عامر بياء الغيبة في الأول ، وبالخطاب في الثاني ، وفتح الباء فيهما . وقرئ شاذا بتاء الخطاب وضم الباء فيهما معا . [وقرئ فيه أيضا بياء الغيبة فيهما وفتح الباء فيهما أيضا ، فهذه خمس قراءات ] .

فأما قراءة ابن كثير وأبي عمرو ففيها خمسة أوجه ، وذلك أنه لا يخلو : إما أن يجعل الفعل الأول مسندا إلى ضمير غائب أو إلى الموصول ، فإن جعلناه مسندا إلى ضمير غائب : إما الرسول عليه السلام أو غيره ففي المسألة وجهان ، أحدهما : أن "الذين " مفعول أول ، والثاني محذوف لدلالة المفعول الثاني للفعل الذي بعده عليه وهو "بمفازة " ، والتقدير : لا يحسبن الرسول أو حاسب الذين يفرحون بمفازة ، فلا يحسبنهم بمفازة ، فأسند الفعل الثاني لضمير "الذين " ، ومفعولاه : الضمير المنصوب و "بمفازة " .

الوجه الثاني : أن "الذين " مفعول أول أيضا ، ومفعوله الثاني هو "بمفازة " الملفوظ به بعد الفعل الثاني ، ومفعول الفعل الثاني محذوف لدلالة مفعول الأول عليه ، والتقدير : لا يحسبن الرسول الذين يفرحون بمفازة فلا يحسبنهم كذلك ، والعمل كما تقدم . وهذا بعيد جدا للفصل بين المفعول الثاني للفعل [ ص: 526 ] الأول بكلام طويل من غير حاجة . والفاء على هذين الوجهين عاطفة ، والسببية فيها ظاهرة .

وإن جعلناه مسندا إلى الموصول ففيه ثلاثة أوجه ، أولها : أن الفعل الأول حذف مفعولاه اختصارا لدلالة مفعولي الفعل الثاني عليهما تقديره : لا يحسبن الفارحون أنفسهم فائزين فلا يحسبنهم فائزين كقول الآخر :


1508 - بأي كتاب أم بأية سنة ترى حبهم عارا علي وتحسب



أي : وتحسب حبهم عارا ، فحذف مفعولي الفعل الثاني لدلالة مفعولي الأول عليهما ، وهو عكس الآية الكريمة حيث حذف فيها من الفعل الأول .

الوجه الثاني : أن الفعل الأول لم يحتج إلى مفعولين هنا . قال أبو علي : "يحسبن " لم يقع على شيء ، و "الذين " رفع به ، وقد تجيء هذه الأفعال لغوا في حكم الجمل المفيدة كقوله :


1509 - وما خلت أبقى بيننا من مودة     عراض المذاكي المسنفات القلائصا



وقال الخليل : "العرب تقول : ما رأيت يقول ذلك إلا زيد ، وما ظننته يقول ذلك إلا عمرو " يعني أبو علي : أنها في هذه الأماكن ملغاة لا مفعول لها .

[ ص: 527 ] الثالث : أن يكون المفعول الأول محذوفا . الثاني هو نفس "بمفازة " ويكون "فلا يحسبنهم " تأكيدا للفعل الأول . وهذا رأي الزمخشري ، فإنه قال بعد ما حكى هذه القراءة : "على أن الفعل للذين يفرحون ، والمفعول الأول محذوف على معنى : " لا يحسبنهم الذين يفرحون بمفازة "بمعنى : لا يحسبن أنفسهم الذين يفرحون فائزين ، و " فلا يحسبنهم "تأكيد انتهى .

قال الشيخ : "وتقدم لنا الرد على الزمخشري في تقديره : " لا يحسبنهم الذين "في قوله : "لا يحسبن الذين كفروا أنما نملي" وأن هذا التقدير لا يصح " . قلت : قد تقدم ذلك والجواب عنه بكلام طويل ، لكن ليس هو في قوله : لا يحسبن الذين كفروا أنما نملي بل في قوله : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله في قراءة من قرأه بياء الغيبة ، فهناك رد عليه بما قال ، وقد أجبت عنه والحمد لله ، وإنما نبهت على الموضع لئلا يطلب هذا البحث من المكان الذي ذكره فلم يوجد .

ويجوز أن يقال في تقرير هذا الوجه الثالث : إنه حذف من أحد الفعلين ما أثبت نظيره في الآخر ، وذلك أن "بمفازة " مفعول ثان للفعل الأول حذفت من الفعل الثاني ، و "هم " في : "فلا يحسبنهم " مفعول أول للفعل الثاني ، وهو محذوف من الأول . وإذا عرفت ذلك فالفعل الثاني على هذه الأوجه الثلاثة تأكيد للأول .

وقال مكي : "إن الفعل الثاني بدل من الأول " ، وتسمية مثل هذا بدلا [ ص: 528 ] فيه نظر لا يخفى ، وكأنه يريد أنه في حكم المكرر ، فهو يرجع إلى معنى التأكيد ، ولذلك قال بعضهم : "والثاني معاد على طريق البدل مشوبا بمعنى التأكيد " وعلى هذين القولين - أعني كونه توكيدا أو بدلا - فالفاء زائدة ليست عاطفة ولا جوابا .

وقوله : "فلا يحسبنهم " أصله : يحسبوننهم بنونين ، الأولى نون الرفع والثانية للتأكيد ، وتصريفه لا يخفى من القواعد المتقدمة . وتعدى هنا فعل المضمر المنفصل إلى ضميره المتصل ، وهو خاص بباب الظن وبـ "عدم وفقد دون سائر الأفعال لو قلت : " أكرمتني "أي : " أكرمت أنا نفسي "لم يجز ، وموضع تقريره غير هذا .

وأما قراءة الكوفيين فالفعلان فيها مسندان إلى ضمير المخاطب : إما الرسول عليه السلام ، أو كل من يصلح للخطاب ، والكلام في المفعولين للفعلين كالكلام فيهما في قراءة أبي عمرو وابن كثير ، على قولنا : إن الفعل الأول مسند لضمير غائب . والفعل الثاني تأكيد للأول أو بدل منه ، والفاء زائدة كما تقدم في توجيه قراءة أبي عمرو وابن كثير على قولنا إن الفعلين مسندان للموصول لأن الفاعل فيها واحد . واستدلوا على أن الفاء زائدة بقوله :


1510 - لا تجزعي إن منفسا أهلكته     وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي



ويقول الآخر :

[ ص: 529 ]

1511 - لما اتقى بيد عظيم جرمها     فتركت ضاحي كفه يتذبذب



أي : تركت . وقول الآخر :


1512 - حتى تركت العائدات يعدنه     فيقلن : لا يبعد وقلت له : ابعد



إلا أن زيادة الفاء ليس رأي الجمهور ، إنما قال به الأخفش .

وأما قراءة نافع وابن عامر بالغيبة في الأول والخطاب في الثاني فوجهها أنهما غايرا بين الفاعلين ، والكلام فيها يؤخذ مما تقدم ، فيؤخذ الكلام في الفعل الأول من الكلام على قراءة أبي عمرو وابن كثير ، وفي الثاني من الكلام على قراءة الكوفيين بما يليق به ، إلا أنه يمتنع هنا أن يكون الفعل الثاني تأكيدا للأول أو بدلا منه لاختلاف فاعليهما ، فتكون الفاء هنا عاطفة ليس إلا . وقال أبو علي في "الحجة " : "إن الفاء زائدة والثاني بدل من الأول " ، قال : "ليس هذا موضع العطف لأن الكلام لم يتم ، ألا ترى أن المفعول الثاني لم يذكر بعد " . وفيه نظر لاختلاف الفعلين باختلاف فاعليهما .

وأما قراءة الخطاب فيهما مع ضم الباء فيهما فالفعلان مسندان لضمير المؤمنين المخاطبين ، والكلام في المفعولين كالكلام فيهما في قراءة الكوفيين .

وأما قراءة الغيبة وفتح الباء فيهما فالفعلان مسندان إلى ضمير غائب أي : لا يحسبن الرسول أو حاسب ، والكلام في المفعولين للفعلين كالكلام [ ص: 530 ] في القراءة التي قبلها . والثاني من الفعلين تأكيد أو بدل ، والفاء زائدة على هاتين القراءتين لاتحاد الفاعل .

وقرأ النخعي ومروان بن الحكم : "بما آتوا " ممدودا أي : أعطوا . وقرأ أبي "أوتوا " مبنيا للمفعول .

قوله : من العذاب فيه وجهان ، أحدهما : أنه متعلق بمحذوف على أنه صفة لـ "مفازة " أي : بمفازة كائنة من العذاب على جعلنا "مفازة " مكانا أي : بموضع فوز . قال أبو البقاء "لأن المفازة مكان ، والمكان لا يعمل " ، يعني فلا يكون متعلقا بها ، بل بمحذوف على أنه صفة لها ، إلا أن جعله صفة مشكل ، لأن المفازة لا تتصف بكونها من العذاب ، اللهم إلا أن يقدر ذلك المحذوف الذي يتعلق به الجار شيئا خاصا [حتى يصح ] المعنى ، تقديره : بمفازة منجية من العذاب ، وفيه الإشكال المعروف وهو أنه لا يقدر المحذوف في مثله إلا كونا مطلقا .

الوجه الثاني : أنه يتعلق بنفس "مفازة " على أنها مصدر بمعنى الفوز تقول : "فزت منه " أي : نجوت ، ولا يضر كونها مؤنثة بالتاء لأنها مبنية عليها ، وليست الدالة على التوحيد فهو كقوله :


1513 - فلولا رجاء النصر منك ورهبة     عقابك قد كانوا لنا كالموارد



[ ص: 531 ] فأعمل "رهبة " في "عقابك " وهو مفعول صريح فهذا أولى . وقال أبو البقاء : "ويكون التقدير : فلا تحسبنهم فائزين ، فالمصدر في موضع اسم الفاعل " انتهى . فإن أراد تفسير المعنى فذاك ، وإن أراد أنه بهذا التقدير يصح التعلق فلا حاجة إليه ، إذ المصدر مستقل بذلك لفظا ومعنى .

التالي السابق


الخدمات العلمية