صفحة جزء
آ . (195) قوله تعالى : أني لا أضيع : الجمهور على فتح "أن " والأصل : بأني ، فيجيء فيها المذهبان . وقرأ أبي : "بأني " على هذا الأصل . وقرأ عيسى بن عمر بالكسر وفيه وجهان ، أحدهما : أنه على إضمار القول أي : وقال إني . والثاني : أنه على الحكاية بـ "استجاب " لأن فيه معنى القول ، وهو رأي الكوفيين .

و "استجاب " بمعنى أجاب ، ويتعدى بنفسه وباللام ، وتقدم تحقيق ذلك في قوله : فليستجيبوا لي . ونقل تاج القراء أن "أجاب " عام ، و "استجاب " خاص في حصول المطلوب .

والجمهور : "أضيع " من أضاع وقرئ بالتشديد والتضعيف ، والهمزة فيه للنقل كقوله :

[ ص: 539 ]

1515 - كمرضعة أولاد أخرى وضيعت بني بطنها ، هذا الضلال عن القصد



قوله : "منكم " في موضع جر صفة لـ "عامل " أي كائن منكم .

وأما "من ذكر " ففيه خمسة أوجه ، أحدها : أنها لبيان الجنس ، بين جنس العامل ، والتقدير : الذي هو ذكر أو أنثى ، وإن كان بعضهم قد اشترط في البيانية أن تدخل على معرف بلام الجنس ، وقد تقدم شيء من ذلك . الثاني : أنها زائدة لتقدم النفي في الكلام ، وعلى هذا فيكون "من ذكر " بدلا من نفس "عامل " كأنه قيل : عامل ذكر أو أنثى ، ولكن فيه نظر من حيث إن البدل لا يزاد فيه "من " . الثالث : أنها متعلقة بمحذوف ؛ لأنها حال من الضمير المستكن في "منكم " ، لأنه لما وقع صفة تحمل ضميرا ، والعامل في الحال العامل في "منكم " أي : عامل كائن منكم كائنا من ذكر . الرابع : أن يكون "من ذكر " بدلا من "منكم " ، قال أبو البقاء "وهو بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة " يعني فيكون بدلا تفصيليا بإعادة العامل كقوله : للذين استضعفوا لمن آمن لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم . وفيه إشكال من وجهين ، أحدهما : أنه بدل ظاهر من حاضر في بدل كل من كل وهو لا يجوز إلا عند الأخفش . وقيد بعضهم جوازه بأن يفيد إحاطة كقوله :


1516 - فما برحت أقدامنا في مقامنا     ثلاثتنا حتى أزيروا المنائيا



[ ص: 540 ] قوله تعالى : تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا فلما أفاد الإحاطة والتأكيد جاز . واستدل الأخفش بقوله :


1517 - بكم قريش كفينا كل معضلة     وأم نهج الهدى من كان ضليلا



وقول الآخر :


1518 - وشوهاء تعدو بي إلى صارخ الوغى     بمستلئم مثل الفنيق المدجل



فـ " قريش " بدل من "كم " ، و "بمستلئم " بدل من "بي " بإعادة حرف الجر ، وليس ثم لا إحاطة ولا تأكيد ، فمذهبه يمشي على رأي الأخفش دون الجمهور .

الثاني : أن البدل التفصيلي لا يكون بـ "أو " ، وإنما يكون بالواو لأنها للجمع كقوله :


1519 - وكنت كذي رجلين رجل صحيحة     ورجل رمى منها الزمان فشلت



وقد يمكن أن يجاب عنه بأن "أو " قد تأتي بمعنى الواو كقوله :

[ ص: 541 ]

1520 - قوم إذا سمعوا الصريخ رأيتهم     ما بين ملجم مهره أو سافع



فـ "أو " بمعنى الواو ، لأن "بين " لا تدخل إلا على متعدد ، وكذلك هنا لما كان "عامل " عاما أبدل منه على سبيل التوكيد ، وعطف على أحد الجزأين ما لا بد منه ، لأنه لا يؤكد العموم إلا بعموم . الخامس : أن يكون "من ذكر " صفة "ثانية " لـ "عامل " قصد بها التوضيح فتتعلق بمحذوف كالتي قبلها .

قوله : بعضكم من بعض مبتدأ وخبر ، وفيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أن هذه الجملة استئنافية جيء بها لتبيين شركة النساء مع الرجال في الثواب الذي وعد الله به عباده العاملين ، لأنه يروى في الأسباب أن أم سلمة - رضي الله عنها - سألته عليه السلام عن ذلك فنزلت ، والمعنى : كما أنكم من أصل واحد ، وأن بعضكم مأخوذ من بعض فكذلك أنتم في ثواب العمل لا يثاب رجل عامل دون امرأة عاملة .

وعبر الزمخشري عن هذا بأنها جملة معترضة . قال : "وهذه جملة معترضة بينت بها شركة النساء من الرجال فيما وعد الله العاملين " ويعني بالاعتراض أنها جيء بها بين قوله عمل عامل وبين ما فصل به عمل العامل من قوله : فالذين هاجروا ، ولذلك قال الزمخشري : "فالذين هاجروا تفصيل لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم .

والثاني : أن هذه الجملة صفة . الثالث : أنها حال ، ذكرهما أبو البقاء ، ولم يعين الموصوف ولا ذا الحال ، وفيه نظر .

قوله : فالذين هاجروا مبتدأ ، وقوله : لأكفرن جواب قسم محذوف [ ص: 542 ] تقديره : والله لأكفرن ، وهذا القسم وجوابه خبر لهذا المبتدأ ، وفي هذه الآية ونظائرها من قوله : والذين جاهدوا فينا لنهدينهم . وقول الشاعر :


1521 - جشأت فقلت اللذ خشيت ليأتين     وإذا أتاك فلات حين مناص



رد على ثعلب حيث زعم أن الجملة القسمية لا تقع خبرا . وله أن يقول : هذه معمولة لقول مضمر هو الخبر ، وله نظائر .

والظاهر أن هذه الجمل التي بعد الموصول كلها صلات له ، فلا يكون الخبر إلا لمن جمع بين هذه الصفات : المهاجرة والقتل والقتال ، ويجوز أن يكون ذلك على التنويع ، ويكون قد حذف الموصولات لفهم المعنى ، وهو مذهب الكوفيين ، وقد تقدم القول فيه ، والتقدير : فالذين هاجروا ، والذين أخرجوا ، والذين قاتلوا ، فيكون الخبر بقوله : لأكفرن عمن اتصف بواحدة من هذه .

وقرأ جمهور السبعة : " وقاتلوا وقتلوا "ببناء الأول للفاعل من المفاعلة ، والثاني للمفعول ، وهي قراءة واضحة . وابن عامر وابن كثير كذلك ، إلا أنهما شددا التاء من " قتلوا "للتكثير ، وحمزة والكسائي بعكس هذا ، ببناء الأول للمفعول ، والثاني للفاعل . وتوجيه هذه القراءة بأحد معنيين : إما أن الواو لا تقتضي الترتيب فلذلك قدم معها ما هو متأخر في المعنى ، هذا إن حملنا ذلك على اتحاد الأشخاص الذين صدر منهم هذان الفعلان . الثاني : أن [ ص: 543 ] يحمل ذلك على التوزيع ، أي : منهم من قتل ومنهم من قاتل . وهذه الآية في المعنى كقوله : " قتل معه ربيون كثير فما وهنوا " ، والخلاف في هذه كالخلاف في قوله فيقتلون ويقتلون في براءة ، والتوجيه هناك كالتوجيه هنا .

وقرأ عمر بن عبد العزيز : "وقتلوا وقتلوا " ببناء الأول للفاعل من "فعل " ثلاثيا ، والثاني للمفعول ، وهي كقراءة الجماعة .

وقرأ محارب بن دثار : "قتلوا وقاتلوا " ببنائهما للفاعل . وقرأ طلحة بن مصرف : "وقتلوا وقاتلوا " كقراءة حمزة والكسائي ، إلا أنه شدد التاء ، والتخريج كتخريج قراءتهما . ونقل الشيخ عن الحسن وأبي رجاء : "قاتلوا وقتلوا " بتشديد التاء من "قتلوا " ، وهذه هي قراءة ابن كثير وابن عامر كما تقدم ، وكأنه لم يعرف أنها قراءتهما .

قوله : "ثوابا " في نصبه ثمانية أوجه ، أحدها : أنه نصب على المصدر المؤكد ، لأن معنى الجملة قبله يقتضيه ، والتقدير : لأثيبنهم إثابة أو تثويبا ، فوضع "ثوابا " موضع أحد هذين المصدرين ، لأن الثواب في الأصل اسم لما يثاب به كالعطاء : اسم لما يعطى ، ثم قد يقعان موقع المصدر ، وهو نظير قوله : صنع الله ، و وعد الله في كونهما مؤكدين . الثاني : أن يكون حالا من "جنات " أي : مثابا بها ، وجاز ذلك وإن كانت نكرة لتخصصها بالصفة .

[ ص: 544 ] والثالث : أنه حال من ضمير المفعول أي : مثابين . الرابع : أنه حال من الضمير في "تجري " العائد على "جنات " . وخصص أبو البقاء كونه حالا بجعله بمعنى الشيء المثاب به . قال : "وقد يقع بمعنى الشيء المثاب به كقولك : " هذا الدرهم ثوابك "فعلى هذا يجوز أن يكون حالا من ضمير الجنات أي : مثابا بها ، ويجوز أن يكون حالا من ضمير المفعول به في لأدخلنهم " . الخامس : نصبه بفعل محذوف أي : يعطيهم ثوابا السادس : أنه بدل من "جنات " ، وقالوا : على تضمين "لأدخلنهم " . لأعطينهم لما رأوا أن الثواب لا يصح أن ينسب إليه الدخول فيه احتاجوا إلى ذلك . ولقائل أن يقول : جعل الثواب ظرفا لهم مبالغة ، كما قيل في قوله : تبوءوا الدار والإيمان . السابع : أنه نصب على التمييز وهو مذهب الفراء . الثامن : أنه منصوب على القطع ، وهو مذهب الكسائي ، إلا أن مكيا لما نقل هذا عن الكسائي فسر القطع بكونه على الحال ، وعلى الجملة فهذان وجهان غريبان يبعد فهمهما .

و من عند الله صفة له .

وقوله : والله عنده حسن الأحسن أن يرتفع "حسن الثواب " على الفاعلية بالظرف قبله ، لاعتماده على المبتدأ قبله ، والتقدير : والله استقر عنده حسن الثواب ، ويجوز أن يكون مبتدأ والظرف قبله خبره ، والجملة خبر الأول ، وإنما كان الوجه الأول أحسن لأن فيه الإخبار بمفرد وهو الأصل ، بخلاف الثاني فإن الإخبار فيه بجملة .

التالي السابق


الخدمات العلمية