صفحة جزء
آ . (4) قوله تعالى : صدقاتهن نحلة : مفعول ثان ، وهي جمع "صدقة " بفتح الصاد وضم الدال بزنة "سمرة " ، والمراد بها المهر ، وهذه القراءة المشهورة ، وهي لغة الحجاز . وقرأ قتادة : "صدقاتهن " بضم الصاد وإسكان الدال ، جمع صدقة بزنة غرفة . وقرأ مجاهد وابن أبي عبلة بضمهما ، وهي جمع صدقة بضم الصاد والدال ، وهي تثقيل الساكنة الدال للإتباع . وقرأ ابن وثاب والنخعي : "صدقتهن " بضمهما مع الإفراد . قال [ ص: 571 ] الزمخشري : "وهي تثقيل " صدقة "كقولهم في " ظلمة " : " ظلمة " . وقد تقدم لنا خلاف : هل يجوز تثقيل الساكن المضموم الفاء ؟ وقرئ : " صدقاتهن "بفتح الصاد وإسكان الدال ، وهي تخفيف القراءة المشهورة كقولهم في عضد : عضد .

وفي نصب " نحلة "أربعة أوجه ، أحدها : أنها منصوبة على المصدر والعامل فيها الفعل قبلها ؛ لأن " آتوهن "بمعنى انحلوهن ، فهي مصدر على غير الصدر نحو : " قعدت جلوسا " .

الثاني : أنها مصدر واقع موقع الحال ، وفي صاحب الحال ثلاثة احتمالات ، أحدها : أنه الفاعل في " فآتوهن "أي : فآتوهن ناحلين . الثاني : أنه المفعول الأول وهو " النساء " . الثالث : أنه المفعول الثاني وهو " صدقاتهن "أي : منحولات .

الوجه الثالث : أنها مفعول من أجله ؛ إذا فسرت بمعنى " شرعة " .

الوجه الرابع : انتصابها بإضمار فعل بمعنى شرع ، أي : نحل الله ذلك نحلة أي : شرعه شرعة ودينا .

والنحلة : العطية عن طيب نفس ، والنحلة : الشرعة ، ومنه " نحلة الإسلام خير النحل " ، وفلان ينتحل بكذا أي : يدين به ، والنحلة : الفريضة .

قال الراغب : " والنحلة والنحلة : العطية على سبيل التبرع ، وهي أخص من الهبة ، إذ كل هبة نحلة من غير عكس ، واشتقاقه فيما أرى من [ ص: 572 ] النحل نظرا إلى فعله ، فكأن "نحلته " أعطيته عطية النحل "ثم قال : " ويجوز أن تكون النحلة أصلا فسمي النحل بذلك اعتبارا بفعله "وقال الزمخشري : " من نحله كذا : أعطاه إياه ، ووهبه له عن طيب نفسه ، نحلة ونحلا ، ومنه حديث أبي بكر رضي الله عنه : "إني كنت نحلتك جداد عشرين وسقا " .

قوله : "منه " في محل جر ، لأنه صفة لـ "شيء " فيتعلق بمحذوف أي : عن شيء كائن منه . و "من " فيها وجهان ، أحدهما : أنها للتبعيض ، ولذلك لا يجوز لها أن تهبه كل الصداق . وإليه ذهب الليث . والثاني : أنها للبيان ، ولذلك يجوز أن تهبه كل الصداق . قال ابن عطية : "و " من "لبيان الجنس ها هنا ، ولذلك يجوز أن تهب المهر كله ، ولو وقعت على التبعيض لما جاز ذلك " . انتهى . وقد تقدم أن الليث يمنع ذلك فلا يشكل كونها للتبعيض .

وفي هذا الضمير أقوال ، أحدها : أنه يعود على الصداق المدلول عليه بـ " صدقاتهن " . الثاني : أنه يعود على "الصدقات " لسد الواحد مسدها ، لو قيل : "صداقهن " لم يختل المعنى ، وهو شبيه بقولهم : "هو أحسن الفتيان وأجمله " لأنه لو قيل : "هو أحسن فتى " لصح المعنى ، ومثله :

1539 - وطاب ألبان اللقاح وبرد

في "برد " ضمير يعود على "ألبان " لسد "لبن " مسدها . الثالث : أنه يعود على "الصدقات " أيضا ، لكن ذهابا بالضمير مذهب الإشارة ، فإن اسم الإشارة قد يشار به مفردا مذكرا إلى أشياء تقدمته كقوله : قل أأنبئكم بخير [ ص: 573 ] من ذلكم بعد ذكره أشياء قبله ، وقد تقدم لك في البقرة ما حكي عن رؤبة لما قيل له في قوله :


1540 - فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق



"أردت ذلك " ، فأجرى الضمير مجرى اسم الإشارة . الرابع : أنه يعود على المال ، وإن لم يجر له ذكر ، لأن الصدقات تدل عليه . الخامس : أنه يعود على الإيتاء المدلول عليه بـ "آتوا " قاله الراغب وابن عطية . السادس : قال الزمخشري : "ويجوز أن يذكر الضمير لينصرف إلى الصداق الواحد ، فيكون متناولا بعضه ، ولو أنث لتناول ظاهره هبة الصداق كله ، لأن بعض الصدقات واحد منها فصاعدا . وقال الشيخ : " وأقول حسن تذكير الضمير أن معنى "فإن طبن " : فإن طابت كل واحدة ، فلذلك قال "منه " أي : من صداقها ، وهو نظير : وأعتدت لهن متكأ أي : لكل واحدة ، ولذلك أفرد "متكأ " .

قوله : "نفسا " منصوب على التمييز ، وهو هنا منقول من الفاعل ، إذ الأصل : فإن طابت أنفسهن ، ومثله : واشتعل الرأس شيبا ، وهذا منصوب عن تمام الكلام . وجيء بالتمييز هنا مفردا ، وإن كان قبله جمع لعدم اللبس ، إذ من المعلوم أن الكل لسن مشتركات في نفس واحدة ، ومثله : "قر [ ص: 574 ] الزيدون عينا " ويجوز "أنفسا " و "أعينا " . ولا بد من التعرض لقاعدة يعم النفع بها : وهي أنه إذا وقع تمييز بعد جمع منتصب عن تمام الكلام فلا يخلو : إما أن يكون موافقا لما قبله في المعنى أو مخالفا له ، فإن كان الأول وجبت مطابقة التمييز لما قبله نحو : "كرم الزيدون رجالا " كما يطابقه خبرا وصفة وحالا .

وإن كان الثاني : فإما أن يكون مفرد المدلول أو مختلفه ، فإن كان مفرد المدلول وجب إفراد التمييز كقولك في أبناء رجل واحد : "كرم بنو زيد أبا أو أصلا " ، أي : إن لهم جميعا أبا واحدا متصفا بالكرم ، ومثله : "كرم الأتقياء سعيا " إذا لم تقصد بالمصدر اختلاف الأنواع لاختلاف محاله . وإن كان مختلف المدلول : فإما أن يلبس إفراد التمييز لو أفرد أو لا ، فإن ألبس وجبت المطابقة نحو : كرم الزيدون آباء ، أي : أن لكل واحد أبا غير أب الآخر يتصف بالكرم ، ولو أفردت هنا لتوهم أنهم كلهم بنو أب واحد ، والغرض خلافه . وإن لم يلبس جاز الأمران : المطابقة والإفراد ، وهو الأولى ، ولذلك جاءت عليه الآية الكريمة ، وحكم التثنية في ذلك كالجمع .

وحسن الإفراد أيضا هنا ما تقدم من محسن تذكير الضمير وإفراده في "منه " وهو أن المعنى : فإن طابت كل واحدة نفسا . وقال بعض البصريين : "إنما أفرد لأن المراد بالنفس هنا الهوى ، والهوى مصدر ، والمصادر لا تثنى ولا تجمع " وقال الزمخشري : "ونفسا تمييز ، وتوحيدها لأن الغرض بيان الجنس ، والواحد يدل عليه " . ونحا أبو البقاء نحوه ، وشبهه بـ "درهما " في قولك : "عشرون درهما " .

[ ص: 575 ] واختلف النحاة في جواز تقديم التمييز على عامله إذا كان متصرفا ، فمنعه سيبويه ، وأجازه المبرد وجماعة مستدلين بقولهم :


1541 - أتهجر ليلى بالفراق حبيبها     وما كان نفسا بالفراق تطيب



وقوله :


1542 - ... ... ... ...     إذا عطفاه ماء تحلبا



والأصل : تطيب نفسا ، وتحلبا ماء . وفي البيتين كلام طويل ليس هذا محله . وحجة سيبويه في منع ذلك أن التمييز فاعل في الأصل ، والفاعل لا يتقدم فكذلك ما في قوته . واعترض على هذا بنحو : "زيدا " من قولك : "أخرجت زيدا " فإن "زيدا " في الأصل فاعل قبل النقل ، إذ الأصل : "خرج زيد " . والفرق لائح . وللتمييز أقسام كثيرة مذكورة في كتب القوم .

والجاران في قوله : "فإن طبن لكم عن شيء متعلقان بالفعل قبلهما مضمنا معنى الإعراض ، ولذلك عدي بـ " عن "كأنه قيل : فإن أعرضن لكم عن شيء طيبات النفوس . والفاء في " فكلوه "جواب الشرط وهي واجبة ، والهاء في " فكلوه "عائدة على " شيء " .

[ ص: 576 ] قوله : هنيئا مريئا في نصب " هنيئا "أربعة أقوال : أحدها : أنه منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف ، تقديره : أكلا هنيئا . الثاني : أنه منصوب على الحال من الهاء في " فكلوه "أي : مهنأ أي : سهلا . الثالث : أنه منصوب على الحال بفعل لا يجوز إظهاره البتة ، لأنه قصد بهذه الحال النيابة عن فعلها نحو : " أقائما وقد قعد الناس " ، كما ينوب المصدر عن فعله نحو : " سقيا له ورعيا " . الرابع : أنهما صفتان قامتا مقام المصدر المقصود به الدعاء النائب عن فعله . قال الزمخشري : " وقد يوقف على "فكلوه " ويبتدأ "هنيئا مريئا " على الدعاء ، وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدرين كأنه قيل : هنئا مرءا " . قال الشيخ : "وهذا تحريف لكلام النحاة ، وتحريفه هو جعلهما أقيما مقام المصدر ، فانتصابهما انتصاب المصدر ، ولذلك قال : " كأنه قيل : هنئا مرءا ، فصار كقولك "سقيا لك " و "رعيا لك " ، ويدل على تحريفه وصحة قول النحاة أن المصادر المقصود بها الدعاء لا ترفع الظاهر ، لا تقول : "سقيا الله لك " ولا : "رعيا الله لك " وإن كان ذلك جائزا في أفعالها ، و " هنيئا مريئا " يرفعان الظاهر بدليل قوله :


1543 - هنيئا مريئا غير داء مخامر     لعزة من أعراضنا ما استحلت



فـ "ما " مرفوع بـ "هنيئا " أو بـ "مريئا " على الإعمال ، وجاز ذلك وإن لم يكن بين العاملين ربط بعطف ولا غيره ، لأن "مريئا " لا يستعمل إلا تابعا لـ "هنيئا " فكأنهما عامل واحد ، ولو قلت : "قام قعد زيد " لم يكن من الإعمال إلا على نية حرف العطف " . انتهى .

[ ص: 577 ] إلا أن في عبارة سيبويه ما يرشد لما قاله الزمخشري ، فإنه قال : " هنيئا مريئا : صفتان نصبهما نصب المصادر المدعو بها بالفعل غير المستعمل إظهاره المختزل لدلالة الكلام عليه ، كأنهم قالوا : ثبت ذلك هنيئا مريئا " ، فأول العبارة يساعد الزمخشري ، وآخرها - وهو تقديره بقوله : " كأنهم قالوا : ثبت ذلك هنيئا " - يعكر عليه . فعلى القولين الأولين يكون " هنيئا مريئا "متعلقين بالجملة قبلهما لفظا ومعنى ، وعلى الآخرين مقتطعين لفظا ، لأن عاملهما مقدر من جملة أخرى كما تقدم تقريره .

واختلف النحويون في قولك لمن قال : " أصاب فلان خيرا هنيئا له ذلك "هل " ذلك "مرفوع بالفعل المقدر تقديره : ثبت له ذلك هنيئا فحذف " ثبت "وقام " هنيئا "الذي هو حال مقامه ، أو مرفوع بـ " هنيئا "نفسه ، لأنه لما قام مقام الفعل رفع ما كان الفعل يرفعه ، كما أن قولك : " زيد في الدار " " في الدار "ضمير كان مستترا في الاستقرار ، فلما حذف الاستقرار وقام الجار مقامه رفع الضمير الذي كان فيه . ذهب إلى الأول السيرافي ، وجعل في " هنيئا "ضميرا عائدا على " ذلك " ، وذهب إلى الثاني أبو علي ، وجعل " هنيئا "فارغا من الضمير لرفعه الاسم الظاهر . وإذا قلت : " هنيئا "ولم تقل " ذلك " ، فعلى مذهب السيرافي يكون في " هنيئا "ضمير عائد على ذي الحال ، وهو ضمير الفاعل الذي استتر في " ثبت "المحذوف ، وعلى مذهب الفارسي يكون في " هنيئا "ضمير فاعل بها ، وهو الضمير الذي كان فاعلا لـ " ثبت " ، ويكون " هنيئا "قد قام مقام الفعل المحذوف فارغا من الضمير .

وأما نصب "مريئا " فيه خمسة أوجه ، أحدها : أنه صفة لـ "هنيئا " ، وإليه ذهب الحوفي . والثاني : أنه انتصب انتصاب "هنيئا " ، وقد تقدم ما فيه من [ ص: 578 ] الوجوه . ومنع الفارسي كونه صفة لـ "هنيئا " قال : "لأن هنيئا قام مقام الفعل والفعل لا يوصف ، فكذا ما قام مقامه " ، ويؤيد ما قاله الفارسي أن اسم الفاعل واسم المفعول وأمثلة المبالغة والمصادر إذا وصفت لم تعمل عمل الفعل .

ولم يستعمل "مريئا " إلا تابعا لـ "هنيئا " . ونقل بعضهم أنه قد يجيء غير تابع ، وهو مردود ، لأن العرب لم تستعمله إلا تابعا . وهل "هنيئا مريئا " في الأصل اسما فاعل على زنة المبالغة أم هما مصدران جاءا على وزن فعيل كالصهيل والهدير ؟ خلاف . نقل الشيخ القول الثاني عن أبي البقاء قال : "وأجاز أبو البقاء أن يكونا مصدرين جاءا على وزن فعيل كالصهيل والهدير ، وليسا من باب ما يطرد فيه فعيل في المصدر " . انتهى . وأبو البقاء في عبارته إشكال فلا بد من التعرض إليها ليعرف ما فيها ، قال : "هنيئا جاء على وزن فعيل ، وهو نعت لمصدر محذوف أي : أكلا هنيئا ، وقيل : هو مصدر في موضع الحال من الهاء ، والتقدير : مهنأ و " مريئا "مثله ، والمريء فعيل بمعنى مفعل ، لأنك تقول : " أمرأني الشيء " . ووجه الإشكال : أنه بعد الحكم عليهما بالمصدرية كيف يجعلهما وصفين لمصدر محذوف ، وكيف يفسر " مريئا "المصدر بمعنى اسم الفاعل ؟

وذهب الزمخشري إلى أنهما وصفان ، قال : " الهنيء والمريء صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ إذا كان سائغا لا تنغيص فيه " . انتهى .

[ ص: 579 ] وهنا يهنا - بغير همز - لغة ثانية أيضا . ويقال : هنأني الطعام ومرأني ، فإن أفردت " مرأني "لم يستعمل إلا رباعيا فتقول " أمرأني "وإنما استعمل ثلاثيا للتشاكل مع " هنأني " ، وهذا كما قالوا : " أخذه ما قدم وما حدث "بضم دال " حدث "مشاكلة لـ " قدم " ، ولو أفرد لم يستعمل إلا مفتوح الدال ، وله نظائر أخر . ويقال : هنأت الرجل أهنئه بكسر العين في المضارع أي : أعطيته . واشتقاق الهنيء من الهناء وهو ما يطلى به البعير من الجرب ، قال :


1544 - متبذلا تبدو محاسنه     يضع الهناء مواضع النقب



والمريء : ما ساغ وسهل في الحلق ، ومنه قيل لمجرى الطعام من الحلقوم إلى فم المعدة : مريء .

التالي السابق


الخدمات العلمية