صفحة جزء
آ . (6) قوله تعالى : حتى إذا بلغوا : في "حتى " هذه وما أشبهها - أعني الداخلة على "إذا " - قولان ، أشهرهما : أنها حرف غاية دخلت على الجملة الشرطية وجوابها ، والمعنى : وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم واستحقاقهم دفع أموالهم بشرط إيناس الرشد ، فهي حرف ابتداء كالداخلة على سائر الجمل كقوله :


1545 - وما زالت القتلى تمج دماءها بدجلة حتى ماء دجلة أشكل



وقول امرئ القيس :


1546 - سريت بهم حتى تكل مطيهم     وحتى الجياد ما يقدن بأرسان



والثاني : - وهو قول جماعة منهم الزجاج وابن درستويه - أنها حرف جر ، وما بعدها مجرور بها ، وعلى هذا فـ "إذا " تتمحض للظرفية ، ولا يكون فيها معنى الشرط ، وعلى القول الأول يكون العامل في "إذا " ما تخلص من معنى جوابها تقديره : إذا بلغوا النكاح راشدين فادفعوا .

[ ص: 584 ] وظاهر عبارة بعضهم أن "إذا " ليست بشرطية ، قال : "وإذا ليست بشرطية لحصول ما بعدها ، وأجاز سيبويه أن يجازى بها في الشعر ، وقال : " فعلوا ذلك مضطرين " ، وإنما جوزي بها لأنها تحتاج إلى جواب ، وبأنه يليها الفعل ظاهرا أو مضمرا ، واحتج الخليل على عدم شرطيتها بحصول ما بعدها ، ألا ترى أنك تقول : " أجيئك إذا احمر البسر " ، ولا تقول : " إن احمر " . قال الشيخ : " وكلامه يدل على أنها تكون ظرفا مجردا ليس فيها معنى الشرط ، وهو مخالف للنحويين ، فإنهم كالمجمعين على أنها ظرف فيها معنى الشرط غالبا ، وإن وجد في عبارة بعضهم ما ينفي كونها أداة شرط فإنما يعني أنها لا يجزم بها لا أنها لا تكون شرطا " . وقدر بعضهم مضافا قال : " تقديره : بلغوا حد النكاح أو وقته ، والظاهر أنه لا يحتاج إليه ، إذ المعنى : صلحوا للنكاح . والفاء في قوله : فإن آنستم جواب "إذا " ، وفي قوله "فادفعوا " جواب "إن " .

وقرأ ابن مسعود : "فإن أحستم " والأصل : أحسستم فحذف إحدى السينين ، ويحتمل أن تكون العين أو اللام ، ومثله قول أبي زبيد :


1547 - سوى أن العتاق من المطايا     حسين به فهن إليه شوس



وهذا حذف لا ينقاس ، ونقل بعضهم أنها لغة سليم ، وأنها مطردة في عين كل فعل مضاعفة اتصل به تاء الضمير أو نونه .

ونكر "رشدا " دلالة على التنويع ، والمعنى : أي نوع حصل من الرشد [ ص: 585 ] كان كافيا . وقرأ الجمهور : "رشدا " بضمة وسكون ، وابن مسعود والسلمي بفتحتين ، وبعضهم بضمتين . وسيأتي الكلام على ذلك في الأعراف مشبعا إن شاء الله تعالى .

وآنس كذا : أحس به وشعر ، قال :


1548 - آنست نبأة وأفزعها القن     اص عصرا وقد دنا الإمساء



وقيل : "وجد " عن الفراء ، وقيل : "أبصر " .

قوله : إسرافا وبدارا فيه وجهان ، أحدهما : أنهما منصوبان على المفعول من أجله أي : لأجل الإسراف والبدار . ونقل عن ابن عباس أنه قال : "كان الأولياء يستغنمون أكل مال اليتيم ، لئلا يكبر ، فينتزع المال منهم " . والثاني : أنهما مصدران في موضع الحال أي : مسرفين ومبادرين . و "بدارا " مصدر بادر ، والمفاعلة هنا يجوز أن تكون من اثنين على بابها ، بمعنى "أن الولي يبادر اليتيم إلى أخذ ماله ، واليتيم يبادر إلى الكبر ، ويجوز أن يكون من واحد بمعنى : أن فاعل بمعنى فعل نحو : سافر وطارق .

قوله : أن يكبروا فيه وجهان ، أحدهما : أنه مفعول بالمصدر أي : وبدارا كبرهم ، كقوله : أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ، وفي إعمال [ ص: 586 ] المصدر المنون خلاف مشهور . والثاني : أنه مفعول من أجله على حذف ، أي : مخافة أن يكبروا ، وعلى هذا فمفعول " بدارا "محذوف . وهذه الجملة النهيية فيها وجهان ، أصحهما : أنها استئنافية ، وليست معطوفة على ما قبلها . والثاني : أنها عطف على ما قبلها وهو جواب الشرط بـ " إن "أي : فادفعوا ولا تأكلوها ، وهذا فاسد ، لأن الشرط وجوابه مترتبان على بلوغ النكاح ، وهو معارض لقوله وبدارا أن يكبروا فيلزم منه سبقه على ما ترتب عليه وذلك ممتنع .

قوله : وكفى بالله حسيبا في " كفى "قولان ، أحدهما : أنها اسم فعل . والثاني : - وهو الصحيح - أنها فعل ، وفي فاعلها قولان : أحدهما - وهو الصحيح - أنه المجرور بالباء ، والباء زائدة فيه وفي فاعل مضارعه نحو : أولم يكف بربك باطراد . قال أبو البقاء : " زيدت لتدل على معنى الأمر إذ التقدير : اكتف بالله " . والثاني : أنه مضمر ، والتقدير : كفى الاكتفاء ، و " بالله "على هذا في موضع نصب لأنه مفعول به في المعنى ، وهذا رأي ابن السراج . ورد هذا بأن إعمال المصدر المحذوف لا يجوز عند البصريين إلا ضرورة كقوله :


1549 - هل تذكرون إلى الديرين هجرتكم     ومسحكم صلبكم رحمان قربانا



أي : قولكم يا رحمان . وقال الشيخ : " وقيل : الفاعل مضمر ، [ ص: 587 ] وهو ضمير الاكتفاء ، أي : كفى هو ، أي : الاكتفاء ، والباء ليست زائدة ، فيكون في موضع نصب ، ويتعلق إذ ذاك بالفاعل ، وهذا الوجه لا يسوغ على مذهب البصريين ؛ لأنه لا يجوز عندهم إعمال المصدر مضمرا وإن عنى بالإضمار الحذف امتنع عندهم أيضا لوجهين : حذف الفاعل ، وإعمال المصدر محذوفا وإبقاء معموله " . وفيه نظر ، إذ لقائل أن يقول : إذا قلنا بأن فاعل " كفى "مضمر لا نعلق " بالله "بالفاعل حتى يلزم ما ذكر ، بل نعلقه بنفس الفعل كما تقدم ، وهذا القول سبقه إليه مكي والزجاج فإنه قال : " دخلت الباء في الفاعل ، لأن معنى الكلام الأمر ، أي : اكتفوا بالله " ، وهذا الكلام يشعر أن الباء ليست بزائدة ، وهو كلام غير صحيح ، لأنه من حيث المعنى الذي قدره يكون الفاعل هم المخاطبين ، و " بالله "متعلق به ، ومن حيث كون الباء دخلت في الفاعل يكون الفاعل هو الله تعالى فتناقض .

وفي كلام ابن عطية "نحو من قوله أيضا ، فإنه قال : " بالله "في موضع رفع بتقدير زيادة الخافض ، وفائدة زيادته تبيين معنى الأمر في صورة الخبر أي : اكتفوا بالله ، فالباء تدل على المراد من ذلك " ، وفي هذا ما رد به على الزجاج وزيادة جعل الحرف زائدا وغير زائد . وقال ابن عيسى : "إنما دخلت الباء في " كفى بالله "لأنه كان يتصل اتصال الفاعل ، وبدخول الباء اتصل اتصال المضاف واتصال الفاعل ؛ لأن الكفاية منه تعالى ليست كالكفاية من غيره ، فضوعف لفظها لمضاعفة معناها " ويحتاج إلى فكر .

قوله : حسيبا فيه وجهان ، أصحهما : أنه تمييز يدل على ذلك صلاحية دخول "من " عليه ، وهي علامة التمييز . والثاني : أنه حال .

[ ص: 588 ] و "كفى " هنا متعدية لواحد ، وهو محذوف تقديره : وكفاكم الله " . وقال أبو البقاء : " وكفى "تتعدى إلى مفعولين حذفا هنا تقديره : كفاك الله شرهم بدليل قوله : فسيكفيكهم الله . والظاهر أن معناها غير معنى هذه . قال الشيخ بعد أن ذكر أنها متعدية لواحد : " وتأتي بغير هذا المعنى متعدية إلى اثنين كقوله : فسيكفيكهم الله . وهو محل نظر .

التالي السابق


الخدمات العلمية