صفحة جزء
آ . (12) قوله تعالى : وإن كان رجل يورث كلالة : هذه الآية مما ينبغي أن يطول فيها القول لإشكالها واضطراب أقوال الناس فيها . ولا بد قبل التعرض للإعراب من ذكر معنى الكلالة واشتقاقها واختلاف الناس فيها ، ثم نعود بعد ذلك لإعرابها ، لأنه متوقف على ما ذكرنا فنقول - وبالله العون - : اختلف في معنى الكلالة فقال جمهور اللغويين وغيرهم : إنه الميت الذي لا ولد له ولا والد ، وقيل : الذي لا والد له فقط . وقيل : الذي لا ولد له فقط ، وقيل : هو من لا يرثه أب ولا أم ، وعلى هذه الأقوال كلها فالكلالة واقعة على الميت . وقيل : الكلالة : الورثة ما عدا الأبوين والولد ، قاله قطرب ، وسموا بذلك لأن الميت بذهاب طرفيه تكلله الورثة أي : أحاطوا به من جميع نواحيه ، [ ص: 607 ] ويؤيد هذا القول بأن الآية نزلت في جابر ، ولم يكن له يوم أنزلت أب ولا ابن . وقيل : الكلالة : المال الموروث . وقيل : الكلالة : القرابة ، وقيل : هي الوراثة . فقد تلخص مما تقدم أنها : إما الميت الموروث أو الوارث أو المال الموروث أو الإرث أو القرابة .

وأما اشتقاقها فقيل : هي مشتقة من تكلله الشيء أي : أحاط به ، وذلك أنه إذا لم يترك ولدا ولا والدا فقد انقطع طرفاه وهما عمودا نسبه وبقي ماله الموروث لمن يتكلله نسبه أي : يحيط به كالإكليل ، ومنه "الروضة المكللة " أي : بالزهر ، وعليه قول الفرزدق :


1554 - ورثتم قناة المجد لا عن كلالة عن ابني مناف عبد شمس وهاشم



وقيل : اشتقاقها من الكلال وهو الإعياء ، فكأنه يصير الميراث للوارث من بعد إعياء . وقال الزمخشري : "والكلالة في الأصل : مصدر بمعنى الكلال وهو ذهاب القوة من الإعياء . قال الأعشى :


1555 - فآليت لا أرثي لها من كلالة     ولا من وحى حتى تلاقي محمدا



فاستعير للقرابة من غير جهة الولد والوالد ، لأنها بالإضافة إلى قرابتهما كأنها كالة ضعيفة " . وأجاز فيها أيضا أن تكون صفة على وزن فعالة قال : "كالهجاجة والفقاقة للأحمق " .

[ ص: 608 ] إذا تقرر هذا فلنعد إلى الإعراب فنقول والعون بالله : يجوز في "كان " وجهان أحدهما : أن تكون ناقصة ، و "رجل " اسمها ، وفي الخبر احتمالان ، أحدهما : أنه "كلالة " إن قيل : إنها الميت ، وإن قيل إنها الوارث أو غير ذلك فتقدر حذف مضاف أي : ذا كلالة ، و "يورث " حينئذ في محل رفع صفة لـ "رجل " وهو فعل مبني للمفعول ، ويتعدى في الأصل لاثنين أقيم الأول مقام الفاعل وهو ضمير الرجل ، والثاني محذوف تقديره : يورث هو ماله .

وهل هذا الفعل من ورث الثلاثي أو أورث الرباعي ؟ فيه خلاف ، إلا أن الزمخشري لما جعله من الثلاثي جعله يتعدى إلى الأول من المفعولين بـ "من " فإنه قال : "ويورث من ورث ، أي : يورث منه " يعني أنه في الأصل يتعدى بـ "من " ، وقد تحذف ، تقول : "ورثت زيدا ماله " أي : من زيد ، ولما جعله من "أورث " جعل الرجل وارثا لا موروثا فإنه قال : "فإن قلت : فإن جعلت " يورث "على البناء للمفعول من " أورث "فما وجهه ؟ قلت : الرجل حينئذ الوارث لا الموروث " وقال الشيخ : "إنه من " أورث "الرباعي المبني للمفعول " ولم يقيده بالمعنى الذي قيده الزمخشري .

الاحتمال الثاني : أن يكون الخبر الجملة من "يورث " ، وفي نصب "كلالة " حينئذ أربعة أوجه ، أحدها : أنها حال من الضمير في "يورث " إن أريد بها الميت أو الوارث ، إلا أنه يحتاج في جعلها بمعنى الوارث إلى تقدير مضاف أي : يورث ذا كلالة ؛ لأن الكلالة حينئذ ليست نفس الضمير المستكن في "يورث " . قال أبو البقاء على جعلها بمعنى الميت : "ولو قرئ " كلالة "بالرفع على أنها صفة أو بدل من الضمير في " يورث "لجاز ، غير أني لم أعرف [ ص: 609 ] أحدا قرأ به فلا يقرأن إلا بما نقل " يعني بكونها صفة أنها صفة لـ "رجل " .

الثاني : أنها مفعول من أجله إن قيل : إنها بمعنى القرابة أي : يورث لأجل الكلالة . الثالث : أنه مفعول ثان لـ "يورث " إن قيل إنها بمعنى المال الموروث . الرابع : أنها نعت لمصدر محذوف إن قيل : إنها بمعنى الوراثة أي يورث وراثة كلالة ، وقدر مكي في هذا الوجه حذف مضاف قال : "تقديره ذات كلالة " . وأجاز بعضهم على كونها بمعنى الوراثة أن تكون حالا .

والوجه الثاني من وجهي كان : أن تكون تامة فيكتفى بالمرفوع أي : وإن وجد رجل ، و "يورث " في محل رفع صفة لـ "رجل " و "كلالة " منصوبة على ما تقدم من الحال أو المفعول من أجله أو المفعول به أو النعت لمصدر محذوف على حسب ما قرر من معانيها . ويخص هذا وجه آخر ذكره مكي : وهو أن تكون "كلالة " منصوبة على التفسير ، قال مكي : "كان أي : وقع ، و " يورث "نعت للرجل ، و " رجل "رفع بـ " كان " ، و " كلالة نصب على التفسير ، وقيل : هو نصب على الحال ، على أن الكلالة هو الميت على هذين الوجهين "وفي جعلها تفسيرا - أي تمييزا - نظر لا يخفى .

وقرأ الجمهور : " يورث "مبنيا للمفعول وقد تقدم توجيهه . وقرأ الحسن : "يورث " مبنيا للفاعل ، ونقل عنه أيضا وعن أبي رجاء كذلك ، إلا أنهما شددا الراء ، وتوجيه القراءتين واضح مما تقدم : وذلك أنه إن أريد بالكلالة الميت فيكون المفعولان محذوفين ، و "كلالة " نصب على الحال أي : وإن كان رجل يورث وارثه - أو أهله - ماله في حال كونه كلالة ، وإن أريد بها [ ص: 610 ] القرابة فتكون منصوبة على المفعول من أجله ، والمفعولان أيضا محذوفان على ما تقدم تقريره ، وإن أريد بها المال كانت مفعولا ثانيا ، والأول محذوف أي : يورث أهله ماله ، وأن أريد بها الوارث فبالعكس أي يورث ماله أهله .

وقوله : أو امرأة عطف على "رجل " ، وحذف منها ما أثبت في المعطوف عليه للدلالة على ذلك ، التقدير : أو امرأة تورث كلالة ، وإن كان لا يلزم من تقييد المعطوف عليه تقييد المعطوف ولا العكس ، إلا أنه هو الظاهر .

وقوله : وله أخ جملة من مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال ، والواو الداخلة عليها واو الحال ، وصاحب الحال : إما "رجل " إن كان "يورث " صفة له ، وإما الضمير المستتر في "يورث " . ووحد الضمير في قوله : "وله " ؛ لأن العطف بـ "أو " وما ورد على خلاف ذلك أول عند الجمهور ، كقوله : إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما وإنما أتى به مذكرا لأنه يجوز إذا تقدم متعاطفان بـ "أو " مذكر ومؤنث كنت بالخيار : بين أن تراعي المتقدم أو المتأخر فتقول : "زيد أو هند قام " ، وإن شئت : "قامت " ، وأجاب أبو البقاء عن تذكيره بثلاثة أوجه ، أحدها : أنه يعود على الرجل وهو مذكر مبدوء به . الثاني : أنه يعود على أحدهما ، ولفظ "أحد " مفرد مذكر . والثالث : أنه يعود على الميت أو الموروث لتقدم ما يدل عليه " .

والضمير في قوله : فلكل واحد منهما فيه وجهان ، أحدهما : أنه يعود على الأخ والأخت . والثاني : أنه يعود على الرجل وعلى أخيه أو أخته ، إذا أريد بالرجل في قوله : وإن كان رجل يورث أنه وارث لا موروث ، كما تقدمت [ ص: 611 ] حكايته عن الزمخشري . قال الزمخشري - بعد ما حكيناه عنه - : فإن قلت : فالضمير في قوله : فلكل واحد منهما إلى من يرجع حينئذ ؟ قلت : على الرجل وعلى أخيه أو أخته ، وعلى الأول : إليهما ، فإن قلت : إذا رجع الضمير إليهما أفاد استواءهما في حيازة السدس من غير مفاضلة الذكر للأنثى ، فهل تبقى هذه الفائدة قائمة في هذا الوجه ؟ قلت : نعم لأنك إذا قلت : السدس له ، أو لواحد من الأخ أو الأخت على التخيير فقد سويت بين الذكر والأنثى " انتهى .

وقرأ أبي : "أخ أو أخت من الأم " . وقرأ سعد بن أبي وقاص : "من أم " بغير أداة تعريف . وأجمع الناس على أن المراد بالأخ والأخت من الأم كقراءتهما ، ولأن ما في آخر السورة يدل على ذلك وهو كون : للأخت النصف ، وللأختين الثلثان ، وللإخوة الذكور والإناث للذكر مثل حظ الأنثيين .

قوله : فإن كانوا الواو ضمير الإخوة من الأم المدلول عليهم بقوله : أخ أو أخت ، والمراد الذكور والإناث ، وأتى بضمير الذكور في قوله : "كانوا " وقوله "فهم " تغليبا للمذكر على المؤنث ، و "ذلك " إشارة إلى الواحد ، أي : أكثر من الواحد ، يعني : فإن كان من يرث زائدا على الواحد ؛ لأنه لا يصح أن يقال : "هذا أكثر من واحد " إلا بهذا المعنى لتنافي معنى كثير وواحد ، وإلا فالواحد لا كثرة فيه .

وقوله : من بعد وصية يوصى قد تقدم إعراب ذلك وهذا مثله .

قوله : غير مضار "غير " نصب على الحال من الفاعل في "يوصى " [ ص: 612 ] وهو ضمير يعود على الرجل في قوله : وإن كان رجل ، هذا إن أريد بالرجل الموروث ، وإن أريد به الوارث كما تقدم فيعود على الميت الموروث المدلول عليه بالوارث من طريق الالتزام كما دل عليه في قوله : فلهن ثلثا ما ترك أي : تركه الموروث ، فصار التقدير : يوصى بها الموروث ، هكذا أعربه الناس فجعلوه حالا : الزمخشري وغيره .

إلا أن الشيخ رد ذلك بأنه يؤدي إلى الفصل بين هذه الحال وعاملها بأجنبي منهما ، وذلك أن العامل فيها "يوصى " كما تقرر ، وقوله : أو دين أجنبي لأنه معطوف على "وصية " الموصوفة بالعامل في الحال ، قال : "ولو كان على ما قالوه من الإعراب لكان التركيب : " من بعد وصية يوصى بها غير مضار أو دين " . وهذا الوجه مانع في كلتا القراءتين : أعني بناء الفعل للفاعل أو المفعول ، وتزيد عليه قراءة البناء للمفعول وجها آخر ، وهو أن صاحب الحال غير مذكور ، لأنه فاعل في الأصل حذف وأقيم المفعول مقامه ، ألا ترى أنك لو قلت : " ترسل الرياح مبشرا بها "بكسر الشين ، يعني : " يرسل الله الرياح مبشرا بها "فحذفت الفاعل وأقمت المفعول مقامه ، وجئت بالحال من الفاعل لم يجز فكذلك هذا " . ثم خرجه على أحد وجهين : إما بفعل يدل عليه ما قبله من المعنى ؛ ويكون عاما لمعنى ما يتسلط على المال بالوصية أو الدين وتقديره : يلزم ذلك ماله ، أو يوجبه فيه غير مضار بورثته بذلك الإلزام أو الإيجاب . وإما بفعل مبني للفاعل لدلالة المبني للمفعول عليه أي : يوصي غير مضار ، فيصير نظير قوله : يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال على قراءة من فتح الباء .

[ ص: 613 ] قوله : وصية في نصبها أربعة أوجه ؛ أحدها : أنها مصدر مؤكد ، أي يوصيكم الله بذلك وصية الثاني : أنها مصدر في موضع الحال ، والعامل فيها يوصيكم . قاله ابن عطية ، والثالث : أنها منصوبة على الخروج : إما من قوله : فلكل واحد منهما السدس أو من قوله : فهم شركاء في الثلث وهذه عبارة تشبه عبارة الكوفيين . والرابع : أنها منصوبة باسم الفاعل وهو "مضار " ، والمضارة لا تقع بالوصية بل بالورثة ، لكنه لما وصى الله تعالى بالورثة جعل المضارة الواقعة بهم كأنها واقعة بنفس الوصية مبالغة في ذلك ، ويؤيد هذا التخريج قراءة الحسن : "غير مضار وصية " بإضافة اسم الفاعل إليها على ما ذكرناه من المجاز ، وصار نظير قولهم : "يا سارق الليلة " التقدير : يا سارقا في الليلة ، ولكنه أضاف اسم الفاعل إلى ظرفه مجازا واتساعا ، فكذلك هذا ، أصله : غير مضار في وصية من الله ، فاتسع في هذا إلى أن عدي بنفسه من غير واسطة ، لما ذكرت لك من قصد المبالغة .

وهذا أحسن تخريجا من تخريج أبي البقاء فإنه ذكر في تخريج قراءة الحسن وجهين ، أحدهما : أنه على حذف "أهل " أو ذي أي : غير مضار أهل وصية أو ذي وصية . والثاني : على حذف وقت أي : وقت وصية قال : "وهو من إضافة الصفة إلى الزمان ، ويقرب من ذلك قولهم : " هو فارس حرب "أي : فارس في الحرب ، وتقول : " هو فارس زمانه "أي : في زمانه ، كذلك تقدير القراءة : غير مضار في وقت الوصية .

ومفعول " مضار "محذوف إذا لم تجعل " وصية "مفعولة أي : غير مضار ورثته بوصية .

[ ص: 614 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية