صفحة جزء
آ . (17) قوله تعالى : إنما التوبة على الله : قد تقدم الكلام على "إنما " في أول البقرة وما قيل فيها . و "التوبة " مبتدأ ، وفي خبرها وجهان ، أظهرهما : أنه "على الله " أي : إنما التوبة مستقرة على فضل الله ، ويكون "للذين " متعلقا بما تعلق به الخبر . وأجاز أبو البقاء عند ذكره هذا الوجه [ ص: 623 ] أن يكون "للذين " متعلقا بمحذوف على أنه حال قال : "فعلى هذا يكون " للذين يعملون السوء "حالا من الضمير في الظرف وهو " على الله " ، والعامل فيها الظرف أو الاستقرار أي : كائنة للذين ، ولا يجوز أن يكون العامل في الحال التوبة لأنه قد فصل بينهما بالخبر " ، وهذا الذي قاله فيه تكلف لا حاجة إليه .

الثاني : أن يكون الخبر "للذين " و "على الله " متعلق بمحذوف على أنه حال من شيء محذوف ، والتقدير : "إما التوبة إذا كانت - أو إذ كانت - على الله للذين يعملون " ، فـ "إذا " و "إذ " معمولان لـ "الذين " ؛ لأن الظرف يتقدم على عامله المعنوي . و "كان " هذه التامة وفاعلها هو صاحب الحال . ولا يجوز أن تكون "على الله " حالا من الضمير المستتر في "للذين " ، والعامل فيها "للذين " لأنه عامل معنوي ، والحال لا تتقدم على عاملها المعنوي . هذا ما قاله أبو البقاء ، ونظر هذه المسألة بقولهم : "هذا بسرا أطيب منه رطبا " يعني أن التقدير هنا : إذ كان بسرا أطيب منه إذ كان رطبا ، ففي هذه المسألة أقوال كثيرة مضطربة لا يحتملها هذا الكتاب . وقدر الشيخ مضافين حذفا من المبتدأ والخبر فقال : "التقدير : إنما قبول التوبة مترتب على فضل الله ، فـ " على "باقية على بابها " يعني من الاستعلاء .

قوله : بجهالة فيه وجهان ، أحدهما : أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من فاعل "يعملون " ، ومعناها المصاحبة أي : يعملون السوء ملتبسين بجهالة أي : مصاحبين لها ، ويجوز أن يكون حالا من المفعول أي : ملتبسا بجهالة ، وفيه بعد وتجوز .

[ ص: 624 ] والثاني : أن يتعلق بـ "يعملون " على أنها باء السببية . قال الشيخ : "أي : الحامل لهم على عمل السوء هو الجهالة ، إذ لو كانوا عالمين بما يترتب على المعصية متذكرين له حال عملها لم يقدموا عليها كقوله : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن "لأن العقل حينئذ يكون مغلوبا أو مسلوبا .

قوله : من قريب فيه وجهان : أحدهما : أن تكون " من "لابتداء الغاية أي : تبتدئ التوبة من زمان قريب من زمان المعصية لئلا يقع في الإصرار ، وهذا إنما يتأتى على قول الكوفيين ، وأما البصريون فلا يجيزون أن تكون " من "لابتداء الغاية في الزمان ، ويتأولون ما جاء منه ، ويكون مفهوم الآية أنه لو تاب من زمان بعيد لم يدخل في من خص بكرامة قبول التوبة على الله المذكورة في هذه الآية ، بل يكون داخلا فيمن قال فيهم "" فأولئك عسى الله أن يتوب عليهم " " .

والثاني : أنها للتبعيض أي : بعض زمان قريب ، يعني : أي جزء من أجزاء هذا الزمان أتى بالتوبة فيه فهو تائب من قريب . وعلى الوجهين فـ "من " متعلقة بـ "يتوبون " ، و "قريب " صفة لزمان محذوف كما تقدم تقريره ، إلا أن حذف هذا الموصوف وإقامة هذه الصفة مقامه ليس بقياس ، إذ لا ينقاس الحذف إلا في صور ، منها أن تكون الصفة جرت مجرى الأسماء الجوامد كالأبطح والأبرق ، أو كانت خاصة بجنس الموصوف نحو مررت بكاتب ، [ ص: 625 ] أو تقدم ذكر موصوفها نحو : "اسقني ماء ولو باردا ، وما نحن فيه ليس شيئا من ذلك .

وفي قوله : ثم يتوبون إعلام بسعة عفوه ، حيث أتى بحرف التراخي . والفاء في قوله " فأولئك "مؤذنة بتسبب قبول الله توبتهم إذا تابوا من قريب . وضمن " يتوب "معنى يعطف فلذلك عدى بـ " على " . ، وأما قوله : إنما التوبة على الله فراعى المضاف المحذوف إذ التقدير : إنما قبول التوبة على الله ، كذا قال الشيخ وفيه نظر .

التالي السابق


الخدمات العلمية