صفحة جزء
آ . (19) قوله تعالى : أن ترثوا : في محل رفع على الفاعلية بـ "يحل " أي : لا يحل لكم إرث النساء . وقرئ "لا تحل " بالتاء من فوق [ ص: 627 ] على تأويل أن ترثوا : بالوراثة ، وهي مؤنثة ، وهذا كقراءة : ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا بتأنيث "تكن " ونصب "فتنتهم " بتأويل "ثم لم تكن فتنتهم إلا مقالتهم " ، إلا أن في آية الأنعام مسوغا وهو الإخبار عنه بمؤنث كما سيأتي .

و "النساء " مفعول به : إما على حذف مضاف أي : أن ترثوا أموال النساء إن كان الخطاب للأزواج ؛ لأنه روي أن الرجل منهم إذا لم يكن له غرض في المرأة أمسكها حتى تموت فيرثها ، أو تفتدي منه بمالها إن لم تمت . وإما من غير حذف ، على معنى أن يكن بمعنى الشيء الموروث إن كان الخطاب للأولياء أو الأقرباء الميت ، فقد نقل أنه إذا مات أحدهم وترك امرأة وابنا من غيرها كان أحق بها من نفسها . وقيل : كان الولي إن سبق وألقى عليها ثوبه كان أحق بها ، وإن سبقت إلى أهلها كانت أحق بنفسها ، فنهوا أن يجعلوهن كالأشياء المواريث ، وعلى ما ذكرت فلا يحتاج إلى حذف أحد المفعولين : إما الأول أو الثاني على جعل "أن ترثوا " متعديا لاثنين كما فعل أبو البقاء قال : "والنساء فيه وجهان : أحدهما : هن المفعول الأول ، والنساء على هذا هن الموروثات ، وكانت الجاهلية ترث نساء آبائهم وتقول : نحن أحق بنكاحهن . والثاني : أنه المفعول الثاني والتقدير : أن ترثوا من النساء المال " انتهى . قوله : "هن المفعول الأول " يعني والثاني محذوف تقديره : أن ترثوا من آبائكم النساء .

و "كرها " مصدر في موضع نصب على الحال من النساء أي : أن ترثوهن كارهات أو مكرهات . وقرأ الأخوان "كرها " هنا وفي براءة [ ص: 628 ] والأحقاف بضم الكاف ، وافقهما عاصم وابن عامر من رواية ابن ذكوان عنه على ما في الأحقاف ، والباقون بالفتح . وقد تقدم الكلام في الكره والكره : هل هما بمعنى واحد أم لا ؟ في البقرة فأغنى عن إعادته . ولا مفهوم لقوله "كرها " يعني فيجوز أن يرثوهن إذا لم يكرهن ذلك لخروجه مخرج الغالب .

قوله : ولا تعضلوهن فيه وجهان ، أظهرهما : أنه مجزوم بـ "لا " الناهية ، عطف جملة نهي على جملة خبرية ، فإن لم تشترط المناسبة بين الجمل - كما هو مذهب سيبويه - فواضح ، وإن اشترطنا ذلك - كما هو رأي بعضهم - فلأن الجملة قبلها في معنى النهي ، إذ التقدير : لا ترثوا النساء كرها فإنه غير حلال لكم . وجعله أبو البقاء على هذا الوجه مستأنفا ، يعني أنه ليس بمعطوف على الفعل قبله .

والثاني : - أجازه ابن عطية وأبو البقاء - أن يكون منصوبا عطفا على الفعل قبله . قال ابن عطية : "ويحتمل أن يكون " تعضلوهن "نصبا عطفا على " ترثوا " ، فتكون الواو مشركة عاطفة فعلا على فعل " .

وقرأ ابن مسعود : "ولا أن تعضلوهن " فهذه القراءة تقوي احتمال النصب وأن العضل مما لا يحل بالنص . ورد الشيخ هذا الوجه بأنك إذا [ ص: 629 ] عطفت فعلا منفيا بـ "لا " على مثبت وكانا منصوبين فإن الناصب لا يقدر إلا بعد حرف العطف لا بعد "لا " ، فإذا قلت : "أريد أن أتوب ولا أدخل النار " فإن التقدير : أريد أن أتوب وأن لا أدخل النار ، لأن الفعل يطلب الأول على سبيل الثبوت والثاني على سبيل النفي ، فالمعنى : أريد التوبة وانتفاء دخولي النار ، فلو كان الفعل المتسلط على المتعاطفين منفيا فكذلك ، ولو قدرت هذا التقدير في الآية لم يصح لو قلت : "لا يحل أن لا تعضلوهن " لم يصح إلا أن تجعل "لا " زائدة لا نافية ، وهو خلاف الظاهر ، وأما أن تقدر "أن " بعد "لا " النافية فلا يصح ، وإذا قدرت "أن " بعد "لا " كان من عطف المصدر المقدر على المصدر المقدر ، لا من باب عطف الفعل على الفعل ، فالتبس على ابن عطية العطفان ، وظن أنه بصلاحية تقدير "أن " بعد "لا " يكون من عطف الفعل على الفعل ، وفرق بين قولك : [لا ] أريد أن تقوم وأن لا تخرج "وقولك : " لا أريد أن تقوم ولا أن تخرج "ففي الأول نفى إرادة وجود قيامه ، وأراد انتقاء خروجه فقد أراد خروجه ، وفي الثانية نفى إرادة وجود قيامه ووجود خروجه ، فلا يريد لا القيام ولا الخروج . وهذا في فهمه بعض غموض على من لم يتمرن في علم العربية " انتهى ما رد به .

وفيه نظر : من حيث إن المثال الذي ذكره في قوله : "أريد أن أتوب ولا أدخل النار " فإن تقدير الناصب فيه قبل "لا " واجب من حيث إنه لو قدر بعدها لفسد التركيب ، وأما في الآية فتقدير "أن " بعد "لا " صحيح ، فإن التقدير يصير : لا يحل لكم إرث النساء كرها ولا عضلهن . [ويؤيد ما قلته وما ذهب إليه ابن عطية قول الزمخشري فإنه قال : فإن قلت : ] تعضلوهن ما وجه [ ص: 630 ] إعرابه ؟ قلت : النصب عطفا على "أن ترثوا " و "لا " لتأكيد النفي أي : لا يحل لكم أن ترثوا النساء ولا أن تعضلوهن " ، فقد صرح الزمخشري بهذا المعنى وصرح بزيادة " لا "التي جعلها الشيخ خلاف الظاهر .

وفي الكلام حذف تقديره : "ولا تعضلوهن من النكاح " إن كان الخطاب للأولياء ، أو : "ولا تعضلوهن من الطلاق " إن كان الخطاب للأزواج . وتقدم معنى العضل في البقرة .

قوله : لتذهبوا اللام متعلقة بـ " تعضلوهن " ، والباء في "ببعض " فيها وجهان ، أحدها : أنها باء التعدية المرادفة لهمزتها أي : لتذهبوا [بعض ] ما آتيتموهن . والثاني : أنها للمصاحبة ، فيكون الجار في محل نصب على الحال ، ويتعلق بمحذوف أي : لتذهبوا مصحوبين ببعض ، و "ما " موصولة بمعنى الذي أو نكرة موصوفة ، وعلى التقديرين فالعائد محذوف ، وفي تقديره إشكال تقدم الكلام عليه في البقرة عند قوله : ومما رزقناهم ينفقون فليلتفت إليه .

قوله : إلا أن يأتين في هذا الاستثناء قولان ، أحدهما : أنه منقطع ، فيكون "أن يأتين " في محل نصب والثاني : أنه متصل ، وفيه حينئذ ثلاثة أوجه ، أحدها : أنه مستثنى من ظرف زمان عام تقديره : "ولا تعضلوهن في وقت من الأوقات إلا وقت إتيانهن بفاحشة . الثاني : أنه مستثنى من الأحوال العامة تقديره : لا تعضلوهن في حال من الأحوال إلا في حال إتيانهن بفاحشة . الثالث : أنه مستثنى من العلة العامة تقديره : لا تعضلوهن لعلة من العلل إلا لإتيانهن بفاحشة . وقال أبو البقاء بعد أن حكى فيه وجه [ ص: 631 ] الانقطاع : " والثاني : هو في موضع الحال تقديره : إلا في حال إتيانهن بفاحشة ، وقيل : هو استثناء متصل ، تقديره : ولا تعضلوهن في حال إلا في حال إتيان الفاحشة "انتهى . وهذان الوجهان هما في الحقيقة وجه واحد ، لأن القائل بكونه منصوبا على الحال لا بد أن يقدر شيئا عاما يجعل هذه الحال مستثناة منه .

وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم : " مبينة "بفتح الياء اسم مفعول في جميع القرآن ، أي : بينها من يدعيها وأوضحها . والباقون بكسرها اسم فاعل وفيه وجهان ، أحدهما : أنه من " بين "المتعدي ، فعلى هذا يكون المفعول محذوفا تقديره مبينة حال مرتكبها . والثاني : أنه من بين اللازم ، فإن " بين "يكون متعديا ولازما يقال : بان الشيء وأبان واستبان وبين وتبين بمعنى واحد أي : ظهر . وقرأ بعضهم : مبينة بكسر الباء وسكون الياء اسم فاعل من " أبان " ، وفيها الوجهان المتقدمان في المشددة المكسورة ، لأن " أبان "أيضا يكون متعديا ولازما ، وأما " مبينات "فقرأهن الأخوان وابن عامر وحفص عن عاصم بكسر الياء اسم فاعل ، والباقون بفتحها اسم مفعول ، وقد تقدم وجه ذلك .

قوله : بالمعروف في الباء وجهان ، أظهرهما : أنها باء الحال : إما من الفاعل أي : مصاحبين لهن بالمعروف ، أو من المفعول أي : مصحوبات بالمعروف . والثاني : أنها باء التعدية . قال أبو البقاء : "بالمعروف " مفعول أو حال " .

قوله : فعسى الفاء جواب الشرط ، وإنما اقترنت بها " عسى "لكونها [ ص: 632 ] جامدة . قال الزمخشري : " فإن قلت : من أي وجه صح أن يكون "فعسى " جزاء للشرط ؟ قلت : من حيث إن المعنى : فإن كرهتموهن فاصبروا عليهن مع الكراهة ، فلعل لكم فيما تكرهون خيرا كثيرا ليس فيما تحبونه " .

وقرئ " ويجعل "برفع اللام . قال الزمخشري : " على أنه حال " ، يعني ويكون خبرا لمبتدأ محذوف ؛ لئلا يلزم دخول الواو على مضارع مثبت . و " عسى "هنا تامة لأنها رفعت " أن "وما بعدها ، والتقدير : فقد قربت كراهتكم ، فاستغنت عن تقدير خبر ، والضمير في " فيه "يعود على " شيء "أي : في ذلك الشيء المكروه وقيل : يعود على الكره المدلول عليه بالفعل . وقيل : يعود على الصبر وإن لم يجر له ذكر .

التالي السابق


الخدمات العلمية