صفحة جزء
آ . (23) قوله تعالى : حرمت عليكم أمهاتكم : "أمهات " جمع "أم " فالهاء زائدة في الجمع ، فرقا بين العقلاء وغيرهم . يقال في العقلاء : "أمهات " وفي غيرهم : "أمات " كقوله :


1562 - وأمات أطلاء صغار



هذا هو المشهور ، وقد يقال : "أمات " في العقلاء : و "أمهات " في غيرهم وقد جمع الشاعر بين الاستعمالين في العقلاء فقال :


1563 - إذا الأمهات قبحن الوجوه     فرجت الظلام بأماتكا



وقد سمع "أمهة " في "أم " بزيادة هاء ، بعدها تاء تأنيث قال :


1564 - أمهتي خندف وإلياس أبي



[ ص: 640 ] فعلى هذا يجوز أن تكون "أمهات " جمع "أمهة " المزيد فيها الهاء ، والهاء قد أتت زائدة في مواضع قالوا : هبلع وهجرع من البلع والجرع .

قوله : وبناتكم عطف على "أمهاتكم " . وبنات جمع بنت ، وبنت تأنيث ابن ، وتقدم الكلام عليه وعلى اشتقاقه ووزنه في البقرة في قوله : يا بني إسرائيل ، إلا أن أبا البقاء حكى عن الفراء أن "بنات " ليس جمعا لـ "بنت " يعني بكسر الباء بل جمع "بنة " يعني بفتحها ، قال : وكسرت الباء تنبيها على المحذوف " . قلت : هذا إنما يجيء على اعتقاد أن لامها ياء ، وقد تقدم لنا خلاف في ذلك وأن الصحيح أنها واو ، وحكى عن غيره أن أصلها : بنوة ، وعلى ذلك جاء جمعها ومذكرها وهو بنون ، قال : " وهو مذهب البصريين "قلت : لا خلاف بين القولين في التحقيق ، لأن من قال : بنات جمع " بنة "بفتح الباء لا بد وأن يعتقد أن أصلها " بنوة "حذفت لامها وعوض منها تاء التأنيث ، والذي قال : بنات جمع " بنوة "لفظ بالأصل فلا خلاف .

واعلم أن تاء " بنت "و " أخت "تاء تعويض عن اللام المحذوفة كما تقدم تقريره ، وليست للتأنيث ، ويدل على ذلك وجهان ، أحدهما : أن تاء التأنيث يلزم فتح ما قبلها لفظا أو تقديرا نحو : ثمرة وفتاة ، وهذه ساكن ما قبلها . والثاني : أن تاء التأنيث تبدل في الوقف هاء ، وهذه لا تبدل بل تقر على حالها . وقال أبو البقاء : " فإن قيل : لم رد المحذوف في "أخوات " ولم يرد في "بنات " ؟ قيل : حمل كل واحد من الجمعين على مذكره ، فمذكر [ ص: 641 ] "بنات " لم يرد إليه المحذوف بل قالوا فيه "بنون " ، ومذكر "أخوات " رد فيه محذوفه قالوا في جمع أخ : إخوة وإخوان " .

وهذا الذي قاله ليس بشيء لأنه أخذ جمع التكسير وهو إخوة وإخوان مقابلا لـ " أخوات "جمع التصحيح ، فقال : رد في أخوات كما رد في إخوة ، وهذا أيضا موجود في " بنات " ؛ لأن مذكره في التكسير رد إليه المحذوف . قالوا : ابن وأبناء ، ولما جمعوا أخا جمع السلامة قالوا فيه "أخون " بالحذف ، فردوا في تكسير ابن وأخ محذوفهما ، ولم يردوا في تصحيحهما ، فبان فساد ما قال .

قوله : وخالاتكم ألف "خالة " و "خال " منقلبة عن واو ، بدليل جمعه على "أخوال " ، قال تعالى : أو بيوت أخوالكم .

قوله : من الرضاعة : في موضع نصب على الحال فيتعلق بمحذوف تقديره : وأخواتكم كائنات من الرضاعة . وقرأ أبو حيوة : "من الرضاعة " بكسر الراء . من نسائكم فيه وجهان ، أحدهما : أنه حال من " ربائبكم " تقديره : "وربائبكم كائنات من نسائكم " . والثاني : أنه حال من الضمير المستكن في قوله : في حجوركم لأنه لما وقع صلة تحمل ضميرا ، أي : اللاتي استقررن في حجوركم .

والربائب : جمع "ربيبة " وهي بنت الزوج أو الزوجة ، والمذكر : ربيب ، سميا بذلك ؛ لأن أحد الزوجين يربه كما يرب ابنه . وقوله : اللاتي في حجوركم لا مفهوم له لخروجه مخرج الغالب . الحجور : جمع "حجر " [ ص: 642 ] بفتح الحاء وكسرها ، وهو مقدم ثوب الإنسان ثم استعملت اللفظة في الحفظ والستر .

قوله : اللاتي دخلتم بهن صفة لـ "نسائكم " المجرور بـ "من " ، اشترط في تحريم الربيبة أن يدخل بأمها .

ولا جائز أن تكون صفة لـ "نسائكم " الأولى والثانية لوجهين ، أحدهما : من جهة الصناعة ، وهو أن "نسائكم " الأولى مجرورة بالإضافة والثانية مجرورة بـ "من " فقد اختلف العاملان ، وإذا اختلفا امتنع النعت ، لا تقول : "رأيت زيدا ومررت بعمرو العاقلين " على أن يكون "العاقلين " نعتا لهما . والثاني من جهة المعنى : وهو أن أم المرأة تحرم بمجرد العقد على البنت دخل بها أو لم يدخل بها عند الجمهور ، والربيبة لا تحرم إلا بالدخول على أمها .

وفي كلام الزمخشري ما يلزم منه أنه يجوز أن يكون هذا الوصف راجعا إلى الأولى في المعنى فإنه قال : من نسائكم متعلق بـ "ربائبكم " ومعناه : أن الربيبة من المرأة المدخول بها محرمة على الرجل حلال له إذا لم يدخل بها . فإن قلت : هل يصح أن يتعلق بقوله : وأمهات نسائكم ؟ قلت : لا يخلو : إما أن يتعلق بهن وبالربائب فتكون حرمتهن وحرمة الربائب غير مبهمتين جميعا ، وإما أن يتعلق بهن دون الربائب ، فتكون حرمتهن غير مبهمة وحرمة الربائب مبهمة ، ولا يجوز الأول لأن معنى "من " مع أحد المتعلقين خلاف معناها مع الآخر ، ألا تراك إذا قلت : "وأمهات نسائكم من [ ص: 643 ] نسائكم اللاتي دخلتم بهن " فقد جعلت "من " لبيان النساء وتمييزا للمدخول بهن من غير المدخول بهن ، وإذا قلت : "وربائبكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن " فإنك جاعل "من " لابتداء الغاية كما تقول : "بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم من خديجة " ، وليس بصحيح أن يعني بالكلمة الواحدة في خطاب واحد معنيين مختلفين ، ولا يجوز الثاني لأن الذي يليه هو الذي يستوجب التعليق به ما لم يعرض أمر لا يرد ، إلا أن تقول : أعلقه بالنساء والربائب ، وأجعل "من " للاتصال كقوله تعالى : المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض ، [وقال ] :


1565 - ... ... ... ...     فإني لست منك ولست مني



[وقوله ] :


1566 - ما أنا من دود ولا دود مني



وأمهات النساء متصلات بالنساء لأنهن أمهاتهن ، كما أن الربائب متصلات بأمهاتهن لأنهن بناتهن ، هذا وقد اتفقوا على أن التحريم لأمهات النساء مبهم " . انتهى . ثم قال : " إلا ما روي عن علي وابن عباس وزيد وابن عمرو وابن الزبير أنهم قرؤوا "وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن " فكان ابن عباس يقول : "والله ما أنزل إلا هكذا " فقوله : "أعلقه بالنساء والربائب " إلى [ ص: 644 ] آخره يقتضي أن القيد الذي في الربائب وهو الدخول في أمهات نسائكم ، كما تقدم حكايته عن علي وابن عباس . قال الشيخ : "ولا نعلم أحدا أثبت لـ " من "معنى الاتصال ، أما الآية والبيت والحديث فمؤولة .

قوله : وحلائل جمع " حليلة "وهي الزوجة ، سميت بذلك لأنها تحل مع زوجها حيث كان ، فهي فعيلة بمعنى فاعلة ، والزوج حليل كذلك ، قال :


1567 - أغشى فتاة الحي عند حليلها     وإذا غزا في الجيش لا أغشاها



وقيل : اشتقاقها من لفظ الحلال ؛ إذ كل منهما حلال لصاحبه ، وهو قول الزجاج وجماعة ، فـ " فعيل "بمعنى مفعول أي : محللة له وهو محلل لها ، إلا أن هذا يضعفه دخول التأنيث ، اللهم إلا أن يقال إنه جرى مجرى الجوامد كالنطيحة والذبيحة . وقيل : هما من لفظ " الحل "ضد العقد ؛ لأن كلا منهما يحل إزار صاحبه .

والذين من أصلابكم صفة مبينة ؛ لأن الابن قد يطلق على المتبنى به وليست امرأته حراما على من تبناه ، وأما الابن من الرضاع فإنه وإن كان حكمه حكم ابن الصلب في ذلك فمبين بالسنة فلا يرد على الآية الكريمة .

وأصلاب : جمع " صلب "وهو الظهر ، سمي بذلك لقوته اشتقاقا من الصلابة ، وأفصح لغتيه : صلب بضم الفاء وسكون العين وهي لغة الحجاز ، [ ص: 645 ] وبنو تميم وأسد يقولون " صلبا بفتحهما ، حكى ذلك الفراء عنهم في كتاب "لغات القرآن " له ، وأنشد عن بعضهم :


1568 - في صلب مثل العنان المؤدم



وحكى عنهم : "إذا أقوم اشتكى صلبي " .

قوله : وأن تجمعوا في محل رفع عطفا على مرفوع "حرمت " أي : وحرم عليكم الجمع بين الأختين ، والمراد الجمع بينهما في النكاح ، أما في الملك فجائز اتفاقا ، وأما الوطء بملك اليمين ففيه خلاف ليس هذا موضعه .

قوله : إلا ما قد سلف استثناء منقطع ، فهو منصوب المحل كما تقدم في نظيره أي : لكن ما مضى في الجاهلية فإن الله يغفره . وقيل : المعنى إلا ما عقد عليه قبل الإسلام ، فإنه بعد الإسلام يبقى النكاح على صحته ، ولكن يختار واحدة منهما ويفارق الأخرى ، وكان قد تقدم قريب من هذا المعنى في ما قد سلف الأول ويكون الاستثناء عليه متصلا ، وهنا لا يتأتى الاتصال البتة لفساد المعنى .

التالي السابق


الخدمات العلمية