صفحة جزء
آ . (24) قوله تعالى : والمحصنات : قرأ الجمهور هذه اللفظة سواء كانت معرفة بـ "أل " أم نكرة بفتح الصاد ، والكسائي بكسرها في الجمع إلا قوله والمحصنات من النساء في رأس الجزء فإنه وافق الجمهور . فأما الفتح ففيه وجهان ، أشهرهما : أنه أسند الإحصان إلى غيرهن ، وهو إما [ ص: 646 ] الأزواج أو الأولياء ، فإن الزوج يحصن امرأته أي : يعفها ، والولي يحصنها بالتزويج أيضا والله يحصنها بذلك . والثاني : أن هذا المفتوح الصاد بمنزلة المكسور ، يعني أنه اسم فاعل ، وإنما شذ فتح عين اسم الفاعل في ثلاثة ألفاظ : أحصن فهو محصن وألقح فهو ملقح ، وأسهب فهو مسهب .

وأما الكسر فإنه أسند الإحصان إليهن ؛ لأنهن يحصن أنفسهن بعفافهن ، أو يحصن فروجهن بالحفظ ، أو يحصن أزواجهن . وأما استثناء الكسائي التي في رأس الجزء قال : "لأن المراد بهن المزوجات فالمعنى : أن أزواجهن أحصنوهن ، فهن مفعولات " ، وهذا على أحد الأقوال في المحصنات هنا من هن ؟ على أنه قد قرئ شاذا - التي في رأس الجزء بالكسر أيضا ، وإن أريد بهن المزوجات ؛ لأن المراد أحصن أزواجهن أو فروجهن ، وهو ظاهر . وقرأ يزيد بن قطيب : و "المحصنات " بضم الصاد ، كأنه لم يعتد بالساكن فأتبع الصاد للميم كقولهم : "منتن " .

وأصل هذه المادة الدلالة على المنع ومنه "الحصن " لأنه يمنع به ، و "حصان " للفرس من ذلك . ويقال : أحصنت المرأة وحصنت ، ومصدر حصنت : "حصن " عن سيبويه و "حصانة " عن الكسائي وأبي عبيدة ، واسم الفاعل من أحصنت محصنة ، ومن حصنت حاصن ، قال :


1569 - وحاصن من حاصنات ملس من الأذى ومن قراف الوقس



[ ص: 647 ] ويقال لها : "حصان " أيضا بفتح الحاء ، قال حسان يصف عائشة رضي الله عنها :


1570 - حصان رزان ما تزن بريبة     وتصبح غرثى من لحوم الغوافل



والإحصان في القرآن ورد ، ويراد به أحد أربعة معان : التزوج والعفة والحرية والإسلام ، وهذا تنفعك معرفته في الاستثناء الواقع بعده : فإن أريد به هنا التزوج كان المعنى : وحرمت عليكم المحصنات أي : المزوجات إلا النوع الذي ملكته أيمانكم : إما بالسبي أو بملك من شري وهبة وإرث ، وهو قول بعض أهل العلم ، ويدل على الأول قول الفرزدق :


1571 - وذات حليل أنكحتها رماحنا     حلال لمن يبني بها لم تطلق



يعني : أن مجرد سبائها أحلها بعد الاستبراء . وإن أريد به الإسلام أو العفة فالمعنى أن المسلمات أو العفيفات حرام كلهن ، يعني فلا يزنى بهن إلا ما ملك منهن بتزويج أو ملك يمين ، فيكون المراد بـ ما ملكت أيمانكم التسلط عليهن وهو قدر مشترك ، وعلى هذه الأوجه الثلاثة يكون الاستثناء متصلا . وإن أريد به الحرائر فالمراد إلا ما ملكت بملك اليمين ، وعلى هذا فالاستثناء منقطع .

وقوله : من النساء في محل نصب على الحال كنظيره المتقدم . وقال [ ص: 648 ] مكي : "فائدة قوله من النساء أن المحصنات تقع على الأنفس ، فقوله من النساء يرفع ذلك الاحتمال ، والدليل على أنه يراد بالمحصنات الأنفس قوله : والذين يرمون المحصنات فلو أريد به النساء خاصة لما حد من قذف رجلا بنص القرآن ، وقد أجمعوا على أن حده بهذا النص " . انتهى . وهذا كلام عجيب لأنه بعد تسليم ما قاله في آية النور كيف يتوهم ذلك هنا أحد من الناس ؟

قوله : كتاب الله في نصبه ثلاثة أوجه ، أظهرها : أنه منصوب على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة المتقدمة قبله وهي قوله : "حرمت " ، ونصبه بفعل مقدر أي : كتب الله ذلك عليكم كتابا . وأبعد عبيدة السلماني في جعله هذا المصدر مؤكدا لمضمون الجملة من قوله تعالى : فانكحوا ما طاب لكم .

الثاني : أنه منصوب على الإغراء بـ "عليكم " والتقدير : عليكم كتاب الله أي : الزموه كقوله : عليكم أنفسكم ، وهذا رأي الكسائي ومن تابعه ، أجازوا تقديم المنصوب في باب الإغراء مستدلين بهذه الآية ، وبقول الآخر :


1572 - يا أيها المائح دلوي دونكا     إني رأيت الناس يحمدونكا



[ ص: 649 ] فـ "دلوي " منصوب بـ "دونك " وقد تقدم . والبصريون يمنعون ذلك ، قالوا : لأن العامل ضعيف ، وتأولوا الآية على ما تقدم ، والبيت على أن "دلوي " منصوب بـ "المائح " أي : الذي ماح دلوي .

والثالث : أنه منصوب بإضمار فعل أي : الزموا كتاب الله ، وهذا قريب من الإغراء . وقال أبو البقاء في هذا الوجه : "تقديره : الزموا كتاب الله " و "عليكم " إغراء ، يعني أن مفعوله قد حذف للدلالة بـ "كتاب الله " عليه ، أي : عليكم ذلك ، فيكون أكثر تأكيدا . وأما "عليكم " فقال أبو البقاء : إنها على القول بأن "كتاب " مصدر يتعلق بذلك الفعل المقدر الناصب لـ "كتاب " ولا يتعلق بالمصدر "قال : " لأنه هنا فضلة " . قال : " وقيل : يتعلق بنفس المصدر لأنه ناب عن الفعل ، حيث لم يذكر معه فهو كقولك : مرورا بزيد قلت : وأما على القول بأنه إغراء فلا محل له لأنه واقع موقع فعل الأمر ، وأما على القول بأنه منصوب بإضمار فعل أي : الزموا فـ "عليكم " متعلق بنفس "كتاب " أو بمحذوف على أنه حال منه .

وقرأ أبو حيوة "كتب الله " على أن "كتب " فعل ماض ، و "الله " فاعل به ، وهي تؤيد كونه منصوبا على المصدر المؤكد . وقرأ ابن السميفع اليماني : "كتب الله " جعله جمعا مرفوعا مضافا لله تعالى على أنه خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هذه كتب الله عليكم .

قوله : وأحل قرأ الأخوان وحفص عن عاصم : "أحل " مبنيا للمفعول ، والباقون مبنيا للفاعل ، وكلتا القراءتين الفعل فيهما معطوف على [ ص: 650 ] الجملة الفعلية من قوله : "حرمت " والمحرم والمحلل هو الله تعالى في الموضعين ، سواء صرح بإسناد الفعل إلى ضميره أو حذف الفاعل للعلم به .

وادعى الزمخشري أن قراءة "أحل " مبنيا للمفعول عطف على "حرمت " ليعطف فعل مبني للمفعول على مثله ، وأما على قراءة بنائه للفاعل فجعله معطوفا على الفعل المقدر الناصب لـ "كتاب " كأنه قيل : كتب الله عليكم تحريم ذلك وأحل لكم ما وراء ذلكم . قال الشيخ : "وما اختاره - يعني من التفرقة بين القراءتين - غير مختار ؛ لأن الناصب لـ " كتاب الله "جملة مؤكدة لمضمون الجملة من قوله " حرمت "إلى آخره ، وقوله " وأحل لكم "جملة تأسيسية فلا يناسب أن تعطف إلا على تأسيسية مثلها لا على جملة مؤكدة ، والجملتان هنا متقابلتان ، إذ إحداهما للتحريم والأخرى للتحليل ، فالمناسب أن تعطف إحداهما على الأخرى لا على جملة أخرى غير الأولى ، وقد فعل هو مثل ذلك في قراءة البناء للمفعول فليكن هذا مثله " وفي هذا الرد نظر .

و ما وراء ذلكم مفعول به : إما منصوب المحل أو مرفوعه على حسب القراءتين في "أحل " .

قوله : أن تبتغوا في محله ثلاثة أوجه : الرفع والنصب والجر ، فالرفع على أنه بدل من ما وراء ذلكم على قراءة "أحل " مبنيا للمفعول ؛ لأن "ما " حينئذ قائمة مقام الفاعل ، وهذا بدل منها بدل اشتمال . وأما النصب فالأجود أن يكون على أنه بدل من "ما " المتقدمة على قراءة "أحل " مبنيا للفاعل ، كأنه [ ص: 651 ] قال : وأحل الله لكم الابتغاء بأموالكم من تزويج أو ملك يمين . وأجاز الزمخشري أن يكون نصبه على المفعول من أجله ، قال "بمعنى : بين لكم ما يحل مما يحرم إرادة أن يكون ابتغاؤكم بأموالكم التي جعل الله لكم قياما في حال كونكم محصنين " .

وأنحى عليه الشيخ ، وجعله إنما قصد بذلك دسيسة الاعتزال ثم قال : "وظاهر الآية غير ما فهمه ، إذ الظاهر أنه تعالى أحل لنا ابتغاء ما سوى المحرمات السابق ذكرها بأموالنا حالة الإحصان لا حالة السفاح ، وعلى هذا الظاهر لا يجوز أن يعرب " أن تبتغوا "مفعولا له ، لأنه فات شرط من شروط المفعول له وهو اتحاد الفاعل في العامل والمفعول له ، لأن الفاعل بـ " أحل "هو الله تعالى والفاعل في " تبتغوا "ضمير المخاطبين فقد اختلفا ، ولما أحس الزمخشري - إن كان أحس - جعل " أن تبتغوا "على حذف " إرادة "حتى يتحد الفاعل في قوله " وأحل "وفي المفعول له ، ولم يجعل " أن تبتغوا "مفعولا له إلا على حذف مضاف وإقامته مقامه ، وهذا كله خروج عن الظاهر " . انتهى .

ولا أدري ما هذا التحمل ، ولا كيف يخفى على أبي القاسم شرط اتحاد الفاعل في المفعول له حتى يقول "إن كان أحس " !!!

وأجاز أبو البقاء فيه النصب على حذف حرف الجر ، قال أبو البقاء : "وفي " ما "- يعني من قوله وأحل لكم ما وراء ذلكم - وجهان ، أحدهما : هي بمعنى " من " ، فعلى هذا يكون قوله " أن تبتغوا "في موضع جر أو نصب على تقدير : بأن تبتغوا أو لأن تبتغوا ، أي : أبيح لكم غير من ذكرنا من النساء [ ص: 652 ] بالمهور ، والثاني : أن " ما "بمعنى الذي ، والذي كناية عن الفعل أي : وأحل لكم تحصيل ما وراء ذلك الفعل المحرم ، و " أن تبتغوا "بدل منه ، ويجوز أن يكون أصله بأن تبتغوا ، أو لأن تبتغوا . وفي ما قاله نظر لا يخفى .

وأما الجر فعلى ما ذكره أبو البقاء . وقد تقدم ما فيه .

و محصنين حال من فاعل " تبتغوا " ، و " غير مسافحين "حال ثانية ، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في " محصنين " ، ومفعول محصنين ومسافحين محذوف أي : محصنين فروجكم غير مسافحين الزواني ، وكأنها في الحقيقة حال مؤكدة لأن المحصن غير مسافح . ولم يقرأ أحد بفتح الصاد من " محصنين "فيما علمت .

قوله : فما استمتعتم به يجوز في " ما "وجهان ، أحدهما : أن تكون شرطية . والثاني : أن تكون موصولة . وعلى كلا التقديرين فيجوز أن يكون المراد بها النساء المستمتع بهن أي : النوع المستمتع به ، وأن يراد بها الاستمتاع الذي هو الحدث . وعلى جميع الأوجه المتقدمة فهي في محل رفع بالابتداء ، فإن كانت شرطية ففي خبرها الخلاف المشهور : هل هو فعل الشرط أو جوابه أو كلاهما ؟ وقد تقدم تحقيقه في البقرة . وإن كانت موصولة فالخبر قوله : فآتوهن ، ودخلت الفاء لشبه الموصول باسم الشرط ، وقد تقدم أيضا تحقيقه . ثم إن أريد بها النوع المستمتع به فالعائد على المبتدأ - سواء كانت " ما "شرطا أو موصولة - الضمير المنصوب في " فآتوهن " ، ويكون قد راعى لفظ " ما "تارة فأفرد في قوله " به "ومعناها أخرى ، فجمع في قوله " منهن " [ ص: 653 ] و " فآتوهن " ، فيصير المعنى : أي نوع من النساء استمتعتم به فآتوهن ، أو النوع الذي استمتعتم به من النساء فآتوهن ، وإن أريد بها الاستمتاع فالعائد حينئذ محذوف تقديره : فأي نوع من الاستمتاع استمتعتم به من النساء فآتوهن أجورهن لأجله ، أو : أي نوع من الاستمتاع الذي استمتعتم به من النساء فآتوهن أجورهن لأجله .

و "من " في "منهم " تحتمل وجهين ، أحدهما : أن تكون للبيان . والثاني : أن تكون للتبعيض ، ومحلها النصب على الحال من الهاء في "به " ولا يجوز في "ما " أن تكون مصدرية لفساد المعنى ، ولعود الضمير في "به " عليها .

والسفاح : الزنا ، وأصله الصب ، لأن الزاني يصب فيه ، وكانوا يقولون : سافحيني وماذيني . والمسافح : من تظاهر بالزنا ، ومتخذ الأخدان من تستر فاتخذ واحدة خفية .

قوله : فريضة حال من "أجورهن " أو مصدر مؤكد أي : فرض الله ذلك فريضة ، أو مصدر على غير الصدر ؛ لأن الإيتاء مفروض فكأنه قيل : فآتوهن أجورهن إيتاء مفروضا .

التالي السابق


الخدمات العلمية