صفحة جزء
آ . (26) قوله تعالى : يريد الله ليبين : في مثل هذا التركيب للناس مذاهب : مذهب البصريين أن مفعول "يريد " محذوف تقديره : يريد الله تحريم ما حرم وتحليل ما حلل وتشريع ما تقدم لأجل التبيين لكم ، ونسبه بعضهم لسيبويه ، فمتعلق الإرادة غير التبيين وما عطف عليه ، وإنما تأولوه بذلك لئلا يلزم تعدي الفعل إلى مفعوله المتأخر عنه باللام وهو ممتنع ، وإلى إضمار "أن " بعد اللام الزائدة .

والمذهب الثاني : - ويعزى أيضا لبعض البصريين - أن يقدر الفعل الذي قبل اللام بمصدر في محل رفع بالابتداء ، والجار بعده خبره ، فيقدر يريد الله ليبين إرادة الله للتبيين ، وقوله :


1575 - أريد لأنسى ذكرها .... .... .... ....



أي : إرادتي ، وقوله تعالى : وأمرنا لنسلم أي : أمرنا بما أمرنا [به ] لنسلم ، وفي هذا القول تأويل الفعل بمصدر من غير حرف مصدر ، وهو ضعيف نحو : "تسمع بالمعيدي خير من تراه " قالوا : تقديره : "أن تسمع " فلما حذف "أن " رفع الفعل ، وهو في تأويل المصدر لأجل الحرف [ ص: 660 ] المقدر فكذلك هذا ، فلام الجر على الأول في محل نصب لتعلقها بـ "يريد " وعلى هذا الثاني في محل رفع لوقوعها خبرا .

الثالث : - وهو مذهب الكوفيين - أن اللام هي الناصبة بنفسها من غير إضمار "أن " ، وهي وما بعدها مفعول الإرادة ، ومنع البصريون ذلك ؛ لأن اللام ثبت لها الجر في الأسماء ، فلا يجوز أن ينصب بها ، فالنصب عندهم بإضمار "أن " كما تقدم .

الرابع : وإليه ذهب الزمخشري وأبو البقاء أن اللام زائدة ، و "أن " مضمرة بعدها ، والتبيين مفعول الإرادة . قال الزمخشري : يريد الله ليبين يريد الله أن يبين ، فزيدت اللام مؤكدة لإرادة التبيين ، كما زيدت في "لا أبا لك " لتأكيد إضافة الأب " . وهذا - كما رأيت - خارج عن أقوال البصريين والكوفيين ، وفيه أن " أن "تضمر بعد اللام الزائدة ، وهي لا تضمر - فيما نص النحويون - بعد لام إلا وتلك اللام للتعليل أو للجحود .

وقال بعضهم : اللام هنا لام العاقبة كهي في قوله : ليكون لهم عدوا وحزنا ، ولم يذكر مفعول التبيين ، بل حذفه للعلم به ، فقدره بعضهم : " ليبين لكم ما يقربكم " ، وبعضهم : " أن الصبر عن نكاح الإماء خير " ، وبعضهم : " ما فصل من الشرائع " ، وبعضهم : " أمر دينكم "وهي متقاربة .

ويجوز في الآية وجه آخر حسن : وهو أن تكون المسألة من باب الإعمال : تنازع " يبين "و " يهدي "في سنن الذين من قبلكم ؛ لأن كلا منهما يطلبه من جهة المعنى ، وتكون المسألة من إعمال الثاني ، وحذف الضمير من [ ص: 661 ] الأول تقديره : ليبينها لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ، والسنة : الطريقة ، ويؤيد هذا أن المفسرين نقلوا أن كل ما بين لنا تحريمه وتحليله من النساء في الآيات المتقدمة فقد كان الحكم كذلك أيضا في الأمم السالفة ، أو أنه بين لكم المصالح ؛ لأن الشرائع وإن كانت مختلفة في نفسها إلا أنها متفقة في المصلحة .

آ . (27) وزعم بعضهم أن في قوله تعالى : والله يريد أن يتوب عليكم : تكريرا لقوله : يتوب عليكم المعطوف على "ليبين " . قال ابن عطية : "وتكرار إرادة الله للتوبة على عباده تقوية للإخبار الأول ، وليس القصد في الآية إلا الإخبار عن إرادة الذين يتبعون الشهوات ، فقدمت إرادة الله توطئة مظهرة لفساد إرادة متبعي الشهوات " . وهذا الذي قاله إنما يتمشى على أن المجرور باللام في قوله "ليبين " مفعول به للإدارة لا على كونه علة ، وقد تقدم أن ذلك قول الكوفيين وهو ضعيف وقد ضعفه هو أيضا . وإذا تقرر هذا فنقول : لا تكرار في الآية ؛ لأن تعلق الإرادة بالتوبة في الأول على جهة العلية ، وفي الثاني على جهة المفعولية ، فقد اختلف المتعلقان .

قوله : ويريد الذين بالرفع عطفا على "والله يريد " عطف جملة فعلية على جملة اسمية ، ولا يجوز أن ينتصب لفساد المعنى ، إذ يصير التقدير : "والله يريد أن يتوب ويريد أن يريد الذين " . واختار الراغب أن الواو للحال تنبيها على أنه يريد التوبة عليكم في حال ما يريدون أن تميلوا ، فخالف بين الإخبارين في تقديم المخبر عنه في الجملة الأولى وتأخيره في الثانية ، [ ص: 662 ] ليبين أن الثاني ليس على العطف " . وقد رد عليه بأن إرادة الله التوبة ليست مقيدة بإرادة غيره الميل ، وبأن الواو باشرت المضارع المثبت . وأتى بالجملة الأولى اسمية دلالة على الثبوت ، وبالثانية فعلية دلالة على الحدوث .

التالي السابق


الخدمات العلمية