صفحة جزء
آ. ( 88 ) قوله تعالى: فما لكم مبتدأ وخبر. و "في المنافقين" فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه متعلق بما تعلق به الخبر وهو "لكم"؛ أي: أي شيء كائن لكم - أو مستقر لكم - في أمر المنافقين. والثاني: أنه متعلق [ ص: 60 ] بمعنى فئتين، فإنه في قوة "ما لكم تفترقون في أمور المنافقين"، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. والثالث: أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من "فئتين"؛ لأنه في الأصل صفة لها، تقديره: فئتين مفترقتين في المنافقين، وصفة النكرة إذا قدمت عليها انتصبت حالا.

وفي "فئتين" وجهان، أحدهما: أنها حال من الكاف والميم في "لكم"، والعامل فيها الاستقرار الذي تعلق به "لكم" ومثله: فما لهم عن التذكرة معرضين ، وقد تقدم أن هذه الحال لازمة؛ لأن الكلام لا يتم دونها، وهذا مذهب البصريين في كل ما جاء من هذا التركيب. والثاني - وهو مذهب الكوفيين -: أنه نصب على خبر "كان" مضمرة، والتقدير: ما لكم في المنافقين كنتم فئتين، وأجازوا: ما لك الشاتم؛ أي: ما لك كنت الشاتم، والبصريون لا يجيزون ذلك؛ لأنه حال والحال لا تتعرف، ويدل على كونه حالا التزام مجيئه في هذا التركيب نكرة، وهذا كما قالوا في "ضربي زيدا قائما": إن "قائما" لا يجوز نصبه على خبر "كان" المقدرة، بل على الحال لالتزام تنكيره. وقد تقدم اشتقاق "الفئة" في البقرة.

قوله: والله أركسهم مبتدأ وخبر، وفيها وجهان، أظهرهما: أنها حال، إما من المنافقين - وهو الظاهر - وإما من المخاطبين، والرابط الواو، كأنه أنكر عليهم اختلافهم في هؤلاء، والحال أن الله قد ردهم إلى الكفر. والثاني: أنها مستأنفة أخبر تعالى عنهم بذلك. و "بما كسبوا" متعلق بـ "أركسهم"، والباء سببية؛ أي: بسبب كسبهم، و "ما" مصدرية أو بمعنى الذي، والعائد محذوف على الثاني لا [ على ] الأول على الصحيح. [ ص: 61 ]

والإركاس: الرد والرجع، ومنه الركس للرجيع، قال عليه السلام في الروثة لما أتي بها: " إنها ركس "، وقال أمية بن أبي الصلت:


1633 - فأركسوا في جحيم النار إنهم كانوا عصاة وقالوا الإفك والزورا



أي: ردوا، وقال الراغب: الركس والنكس: الرذل، إلا أن الركس أبلغ؛ لأن النكس ما جعل أعلاه أسفله، والركس ما صار رجيعا بعد أن كان طعاما. وقيل: أركسه: أوبقه، قال:


1634 - بشؤمك أركستني في الخنا     وأرميتني بضروب العنا



وقيل: الإركاس: الإضلال، ومنه:


1635 - وأركستني عن طريق الهدى     وصيرتني مثلا للعدى



وقيل: هو التنكيس، ومنه:


1636 - ركسوا في فتنة مظلمة     كسواد الليل يتلوها فتن



ويقال: أركس وركس بالتشديد، وركس بالتخفيف؛ ثلاث لغات بمعنى واحد، وارتكس هو؛ أي: رجع. وقرأ عبد الله : "ركسهم" ثلاثيا، وقرئ [ ص: 62 ] "ركسهم - ركسوا" بالتشديد فيهما. وقال أبو البقاء: وفيه لغة أخرى: "ركسه الله" من غير همز ولا تشديد، ولا أعلم أحدا قرأ به. قلت: قد تقدم أن عبد الله قرأ: "والله ركسهم" من غير همز ولا تشديد، وكلام أبي البقاء مخلص، فإنه إنما ادعى عدم العلم بأنها قراءة لا عدم القراءة بها. قال الراغب: إلا أن "أركسه" أبلغ من "ركسه"، كما أن "أسفله" أبلغ من "سفله"، وفيه نظر.

التالي السابق


الخدمات العلمية