صفحة جزء
آ. (83) قوله تعالى: وتلك حجتنا آتيناها : "تلك" إشارة إلى الدلائل المتقدمة في قوله: وكذلك نري إبراهيم إلى قوله: وما أنا من المشركين . ويجوز في "حجتنا" وجهان، أحدهما: أن يكون خبر المبتدإ وفي "آتيناها" حينئذ وجهان، أحدهما: أنه في محل نصب على الحال والعامل فيها معنى الإشارة، ويدل على ذلك التصريح بوقوع الحال في نظيرتها كقوله تعالى: فتلك بيوتهم خاوية . والثاني: أنه في محل رفع على أنه خبر ثان أخبر عنها بخبرين، أحدهما مفرد والآخر جملة. والثاني من الوجهين الأولين: أن تكون "حجتنا" بدلا أو بيانا لتلك، والخبر الجملة الفعلية.

وقال الحوفي: إن الجملة من "آتيناها" في موضع النعت لـ "حجتنا" على نية الانفصال، إذ التقدير: حجة لنا ، يعني الانفصال من الإضافة [ ص: 25 ] ليحصل التنكير المسوغ لوقوع الجملة صفة لحجتنا، وهذا لا ينبغي أن يقال، وقال أيضا: إن "إبراهيم" مفعول ثان لآتيناها، والمفعول الأول هو "ها"، وقد قدمت لك في أوائل البقرة أن هذا مذهب السهيلي عند قوله آتينا موسى الكتاب ، وأن مذهب الجمهور أن تجعل الأول ما كان عاقلا والثاني غيره، ولا تبالي بتقديم ولا تأخير.

قوله: "على قومه" فيه وجهان أحدهما: أنه متعلق بـ "آتينا" قاله ابن عطية والحوفي أي: أظهرناها لإبراهيم على قومه. والثاني: أنها متعلقة بمحذوف على أنها حال أي: آتيناها إبراهيم حجة على قومه أو دليلا على قومه، كذا قدره أبو البقاء، ويلزم من هذا التقدير أن تكون حالا مؤكدة، إذ التقدير: وتلك حجتنا آتيناها له حجة.

وقدرها الشيخ على حذف مضاف فقال:" أي آتيناها إبراهيم مستعلية على حجج قومه قاهرة لها". وهذا حسن. ومنع أبو البقاء أن تكون متعلقة بحجتنا قال: "لأنها مصدر، وآتيناها خبر أو حال، وكلاهما لا يفصل به بين الموصول وصلته". ومنع الشيخ ذلك أيضا، ولكن لكون الحجة ليست مصدرا قال: "إنما هو الكلام المؤلف للاستدلال على الشيء" ثم قال: "ولو جعلناها مصدرا لم يجز ذلك أيضا، لأنه لا يفصل بالخبر ولا بمثل هذه الحال بين المصدر ومطلوبه". وفي منعه ومنع أبي البقاء ذلك نظر، لأن الحال [ ص: 26 ] وإن كانت جملة ليست أجنبية حتى يمنع الفصل بها لأنها من جملة مطلوبات المصدر، وقد تقدم لي نظير ذلك بأشبع من هذا.

قوله: "نرفع" فيه وجهان الظاهر منهما: أنها مستأنفة لا محل لها من الإعراب. الثاني: جوزه أبو البقاء وبدأ به أنها في موضع الحال من "آتيناها" يعني من فاعل "آتيناها" ، أي: في حال كوننا رافعين، ولا تكون حالا من المفعول إذ لا ضمير فيها يعود إليه.

ويقرأ "نرفع" بنون العظمة وبياء الغيبة، وكذلك "يشاء" . وقرأ أهل الكوفة "درجات" بالتنوين وكذا التي في يوسف، والباقون بالإضافة فيهما، فقراءة الكوفيين يحتمل نصب "درجات" فيها من خمسة أوجه أحدها: أنها منصوبة على الظرف و "من" مفعول "نرفع" أي: نرفع من نشاء مراتب ومنازل. والثاني: أن ينتصب على أنه مفعول ثان قدم على الأول، وذلك يحتاج إلى تضمين "نرفع" معنى فعل يتعدى لاثنين وهو "يعطي" مثلا، أي: نعطي بالرفع من نشاء درجات أي: رتبا، والدرجات هي المرفوعة كقوله: رفيع الدرجات وفي الحديث: "اللهم ارفع درجته في عليين" فإذا رفعت الدرجة فقد رفع صاحبها. والثالث: أن ينتصب على حذف حرف الجر أي: إلى منازل وإلى درجات. الرابع: أن ينتصب على التمييز، ويكون منقولا من المفعولية، فيؤول إلى قراءة الجماعة إذ الأصل: نرفع [ ص: 27 ] درجات من نشاء بالإضافة ثم حول كقوله: وفجرنا الأرض عيونا أي: عيون الأرض. الخامس: أنها منتصبة على الحال وذلك على حذف مضاف أي: ذوي درجات. ويشهد لهذه القراءة قوله تعالى: ورفع بعضكم فوق بعض درجات ، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ ، ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى .

وأما قراءة الجماعة: فدرجات مفعول "نرفع" ، والخطاب في "إن ربك" للرسول محمد عليه السلام، وقيل: لإبراهيم الخليل، فعلى هذا يكون فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب منبها بذلك على تشريفه له.

التالي السابق


الخدمات العلمية