صفحة جزء
فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين

قوله تعالى : " فلولا كانت قرية آمنت " أي : أهل قرية . وفي " لولا " قولان : أحدهما : أنه بمعنى : لم تكن قرية آمنت " فنفعها إيمانها " أي : قبل منها " إلا قوم يونس " ، قاله ابن عباس . وقال قتادة : لم يكن هذا لأمة آمنت عند نزول العذاب ، إلا لقوم يونس . والثاني : أنها بمعنى فهلا ، قاله أبو عبيدة ، وابن قتيبة ، والزجاج . قال الزجاج : والمعنى : فهلا كانت قرية آمنت في وقت نفعها إيمانها ، إلا قوم يونس ؟ و " إلا " هاهنا استثناء ليس من الأول ، كأنه قال : لكن قوم يونس . قال الفراء : نصب القوم على الانقطاع مما قبله ، ألا ترى أن [ ص: 65 ] " ما " بعد " إلا " في الجحد يتبع ما قبلها ؟ تقول : ما قام أحد إلا أخوك ، فإذا قلت : ما فيها أحد إلا كلبا أو حمارا ، نصبت ، لانقطاعهم من الجنس ، كذلك كان قوم يونس منقطعين من غيرهم من أمم الأنبياء ، ولو كان الاستثناء وقع على طائفة منهم لكان رفعا . وذكر ابن الأنباري في قوله : " إلا " قولين آخرين : أحدهما : أنها بمعنى الواو ، والمعنى : وقوم يونس لما آمنوا فعلنا بهم كذا وكذا ، وهذا مروي عن أبي عبيدة ، والفراء ينكره . والثاني : أن الاستثناء من الآية التي قبل هذه ، تقديره : حتى يروا العذاب الأليم إلا قوم يونس ، فالاستثناء على هذا متصل غير منقطع .

قوله تعالى : " كشفنا عنهم " أي : صرفنا عنهم " عذاب الخزي " أي : عذاب الهوان والذل " ومتعناهم إلى حين " أي : إلى حين آجالهم .

الإشارة إلى شرح قصتهم

ذكر أهل العلم بالسير والتفسير أن قوم يونس كانوا بـ " نينوى " من أرض الموصل ، فأرسل الله عز وجل إليهم يونس يدعوهم إلى الله ويأمرهم بترك الأصنام ، فأبوا ، فأخبرهم أن العذاب مصبحهم بعد ثلاث ، فلما تغشاهم العذاب ، قال ابن عباس ، وأنس : لم يبق بين العذاب وبينهم إلا قدر ثلثي ميل ، وقال مقاتل : قدر ميل ، وقال أبو صالح عن ابن عباس : وجدوا حر العذاب على أكتافهم ، وقال سعيد بن جبير : غشيهم العذاب كما يغشى الثوب القبر ، وقال بعضهم : غامت السماء غيما أسود يظهر دخانا شديدا ، فغشي مدينتهم ، واسودت سطوحهم ، [ ص: 66 ] فلما أيقنوا بالهلاك لبسوا المسوح ، وحثوا على رؤوسهم الرماد ، وفرقوا بين كل والدة وولدها من الناس والأنعام ، وعجوا إلى الله بالتوبة الصادقة ، وقالوا : آمنا بما جاء به يونس ، فاستجاب الله منهم . قال ابن مسعود : بلغ من توبتهم أن ترادوا المظالم بينهم ، حتى إن كان الرجل ليأتي إلى الحجر قد وضع عليه أساس بنيانه فيقلعه ، فيرده . وقال أبو الجلد : لما غشيهم العذاب ، مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم ، فقالوا : ما ترى ؟ قال : قولوا : يا حي حين لا حي ، يا حي محيي الموتى ، يا حي لا إله إلا أنت ، فقالوها ، فكشف العذاب عنهم . قال مقاتل : عجوا إلى الله أربعين ليلة ، فكشف العذاب عنهم . وكانت التوبة عليهم في يوم عاشوراء يوم الجمعة . قال : وكان يونس قد خرج من بين أظهرهم ، فقيل له ارجع إليهم ، فقال : كيف أرجع إليهم فيجدوني كاذبا ؟ وكان من يكذب بينهم ولا بينة له يقتل ، فانصرف مغاضبا ، فالتقمه الحوت . وقال أبو صالح عن ابن عباس : أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له : شعيا ، فقيل له : ائت فلانا الملك ، فقل له يبعث إلى بني إسرائيل نبيا قويا أمينا ، وكان في مملكته خمسة من الأنبياء ، فقال الملك ليونس : اذهب إليهم ، فقال : ابعث غيري ، فعزم عليه أن يذهب ، فأتى بحر الروم ، فركب سفينة ، فالتقمه الحوت ، فلما خرج من بطنها أمر أن ينطلق إلى قومه ، فانطلق نذيرا لهم ، فأبوا عليه ، فوعدهم بالعذاب ، وخرج ، فلما تابوا رفع عنهم . والقول الأول أثبت عند العلماء ، وأنه إنما التقمه الحوت بعد إنذاره لهم وتوبتهم . وسيأتي شرح قصته في التقام الحوت إياه في مكانه إن شاء الله تعالى [الصافات :143] .

فإن قيل : كيف كشف العذاب عن قوم يونس بعد إتيانه إليهم ، ولم يكشف عن فرعون حين آمن ؟

[ ص: 67 ] فعنه ثلاثة أجوبة . أحدها : أن ذلك كان خاصا لهم كما ذكرنا في أول الآية . والثاني : أن فرعون باشره العذاب ، وهؤلاء دنا منهم ولم يباشرهم ، فكانوا كالمريض يخاف الموت ويرجو العافية ، فأما الذي يعاين ، فلا توبة له ، ذكره الزجاج .

والثالث : أن الله تعالى علم منهم صدق النيات ، بخلاف من تقدمهم من الهالكين ، ذكره ابن الأنباري .

التالي السابق


الخدمات العلمية