صفحة جزء
ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين

قوله تعالى : " ولقد همت به " الهم بالشيء في كلام العرب : حديث المرء نفسه بمواقعته ما لم يواقع . فأما هم أزليخا ، فقال المفسرون : دعته إلى نفسها واستلقت له . واختلفوا في همه بها على خمسة أقوال :

أحدها : أنه كان من جنس همها ، فلولا أن الله تعالى عصمه لفعل ، وإلى هذا المعنى ذهب الحسن ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، والسدي ، وهو قول [ ص: 204 ] عامة المفسرين المتقدمين ، واختاره من المتأخرين جماعة منهم ابن جرير ، وابن الأنباري . وقال ابن قتيبة : لا يجوز في اللغة : هممت بفلان ، وهم بي ، وأنت تريد : اختلاف الهمين . واحتج من نصر هذا القول بأنه مذهب الأكثرين من السلف والعلماء الأكابر ، ويدل عليه ما سنذكره من أمر البرهان الذي رآه . قالوا : ورجوعه عما هم به من ذلك خوفا من الله تعالى يمحو عنه سيئ الهم ، ويوجب له علو المنازل ، ويدل على هذا الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن ثلاثة خرجوا فلجؤوا إلى غار ، فانطبقت عليهم صخرة ، فقالوا : ليذكر كل واحد منكم أفضل عمله . فقال أحدهم : اللهم إنك تعلم أنه كانت لي بنت عم فراودتها عن نفسها فأبت إلا بمائة دينار ، فلما أتيتها بها وجلست منها مجلس الرجل من المرأة أرعدت وقالت : إن هذا لعمل ما عملته قط ، فقمت عنها وأعطيتها المائة الدينار ، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ، فزال ثلث الحجر . والحديث معروف ، وقد ذكرته في " الحدائق " فعلى هذا نقول : إنما همت ، فترقت همتها إلى العزيمة ، فصارت مصرة على الزنا . فأما هو ، فعارضه ما يعارض البشر من خطرات القلب ، وحديث النفس ، من غير عزم ، فلم يلزمه هذا الهم ذنبا ، فإن الرجل الصالح قد يخطر بقلبه وهو صائم شرب الماء البارد ، فإذا لم يشرب لم يؤاخذ بما هجس في نفسه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " عفي لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل " وقال صلى الله عليه وسلم " هلك المصرون " ، وليس [ ص: 205 ] الإصرار إلا عزم القلب ، فقد فرق بين حديث النفس وعزم القلب ، وسئل سفيان الثوري : أيؤاخذ العبد بالهمة ؟ فقال : إذا كانت عزما ، ويؤيده الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يقول الله تعالى : إذا هم عبدي بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه ، فإن عملها كتبتها عليه سيئة " . واحتج القاضي أبو يعلى على أن همته لم تكن من جهة العزيمة ، وإنما كانت من جهة دواعي الشهوة بقوله : " قال معاذ الله إنه ربي " وقوله " كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء " وكل ذلك إخبار ببراءة ساحته من العزيمة على المعصية .

فإن قيل : فقد سوى القرآن بين الهمتين ، فلم فرقتم ؟

فالجواب : أن الاستواء وقع في بداية الهمة ، ثم ترقت همتها إلى العزيمة ، بدليل مراودتها واستلقائها بين يديه ، ولم تتعد همته مقامها ، بل نزلت عن رتبتها ، وانحل معقودها ، بدليل هربه منها ، وقوله : " معاذ الله " ، وعلى هذا تكون همته مجرد خاطر لم يخرج إلى العزم . ولا يصح ما يروى عن المفسرين أنه حل السراويل وقعد منها مقعد الرجل ، فإنه لو كان هذا ، دل على العزم ، والأنبياء معصومون من العزم على الزنا .

والقول الثاني : أنها همت به أن يفترشها ، وهم بها ، أي : تمناها أن تكون له زوجة ، رواه الضحاك عن ابن عباس .

والقول الثالث : أن في الكلام تقديما وتأخيرا تقديره : ولقد همت به ، ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها ، فلما رأى البرهان ، لم يقع منه الهم ، فقدم جواب " لولا " عليها ، كما يقال : قد كنت من الهالكين ، لولا أن فلانا خلصك ، لكنت من الهالكين ، ومنه قول الشاعر :

[ ص: 206 ]

فلا يدعني قومي صريحا لحرة لئن كنت مقتولا وتسلم عامر



أراد : لئن كنت مقتولا وتسلم عامر ، فلا يدعني قومي فقدم الجواب . وإلى هذا القول ذهب قطرب ، وأنكره قوم ، منهم ابن الأنباري ، وقالوا : تقديم جواب " لولا " عليها شاذ مستكره ، لا يوجد في فصيح كلام العرب . فأما البيت المستشهد به ، فمن اضطرار الشعراء ، لأن الشاعر يضيق الكلام به عند اهتمامه بتصحيح أجزاء شعره ، فيضع الكلمة في غير موضعها ، ويقدم ما حكمه التأخير ، ويؤخر ما حكمه التقديم ، ويعدل عن الاختيار إلى المستقبح للضرورة ، قال الشاعر :


جزى ربه عني عدي بن حاتم     بتركي وخذلاني جزاء موفرا



تقديره : جزى عني عدي بن حاتم ربه ، فاضطر إلى تقديم الرب ، وقال الآخر :


لما جفا إخوانه مصعبا     أدى بذاك البيع صاعا بصاع



أراد : لما جفا مصعبا إخوانه ، وأنشد الفراء :


طلبا لعرفك يا ابن يحيى بعدما     تتقطعت بي دونك الأسباب



فزاد تاء على " تقطعت " لا أصل لها ليصلح وزن شعره ، وأنشد ثعلب :


إن شكلي وإن شكلك شتى     فالزمي الخفض وانعمي تبيضضي



فزاد ضادا لا أصل لها لتكمل أجزاء البيت ، وقال الفرزدق :


هما تفلا في في من فمويهما     على النابح العاوي أشد لجاميا



فزاد واوا بعد الميم ليصلح شعره . ومثل هذه الأشياء لا يحمل عليها كتاب الله النازل بالفصاحة ، لأنها من ضرورات الشعراء .

والقول الرابع : أنه هم أن يضربها ويدفعها عن نفسه ، فكان البرهان الذي [ ص: 207 ] رآه من ربه أن الله أوقع في نفسه إن ضربها كان ضربه إياها حجة عليه ، لأنها تقول : راودني فمنعته فضربني ، ذكره ابن الأنباري .

والقول الخامس : أنه هم بالفرار منها ، حكاه الثعلبي ، وهو قول مرذول ، أفتراه أراد الفرار منها ، فلما رأى البرهان ، أقام عندها ؟ قال بعض العلماء : كان هم يوسف خطيئة من الصغائر الجائزة على الأنبياء ، وإنما ابتلاهم بذلك ليكونوا على خوف منه ، وليعرفهم مواقع نعمته في الصفح عنهم . وليجعلهم أئمة لأهل الذنوب في رجاء الرحمة . قال الحسن : إن الله تعالى لم يقصص عليكم ذنوب الأنبياء تعييرا لهم ، ولكن لئلا تقنطوا من رحمته . يعني الحسن : أن الحجة للأنبياء ألزم ، فإذا قبل التوبة منهم ، كان إلى قبولها منكم أسرع . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما من أحد يلقى الله تعالى إلا وقد هم بخطيئة أو عملها ، إلا يحيى بن زكريا ، فإنه لم يهم ولم يعملها " .

قوله تعالى : " لولا أن رأى برهان ربه " جواب " لولا " محذوف . قال الزجاج : المعنى : لولا أن رأى برهان ربه لأمضى ما هم به . قال ابن الأنباري : لزنا ، فلما رأى البرهان كان سبب انصراف الزنا عنه .

وفي البرهان ستة أقوال :

أحدها : أنه مثل له يعقوب . روى ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال : نودي يا يوسف ، أتزني فتكون مثل الطائر الذي نتف ريشه فذهب يطير فلم [ ص: 208 ] يستطع ؟ فلم يعط على النداء شيئا ، فنودي الثانية ، فلم يعط على النداء شيئا ، فتمثل له يعقوب فضرب صدره ، فقام ، فخرجت شهوته من أنامله . وروى الضحاك عن ابن عباس قال : رأى صورة أبيه يعقوب في وسط البيت عاضا على أنامله ، فأدبر هاربا ، وقال : وحقك يا أبت لا أعود أبدا . وقال : أبو صالح عن ابن عباس : رأى مثال يعقوب في الحائط عاضا على شفتيه . وقال الحسن : مثل له جبريل في صورة يعقوب في سقف البيت عاضا على إبهامه أو بعض أصابعه . وإلى هذا المعنى ذهب مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وقتادة ، وابن سيرين ، والضحاك في آخرين . وقال عكرمة : كل ولد يعقوب قد ولد له اثنا عشر ولدا ، إلا يوسف فإنه ولد له أحد عشر ولدا ، فنقص بتلك الشهوة ولدا .

والثاني : أنه جبريل عليه السلام . روى ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال : مثل له يعقوب فلم يزدجر ، فنودي : أتزني فتكون مثل الطائر نتف ريشه ؟! فلم يزدجر حتى ركضه جبريل في ظهره ، فوثب .

والثالث : أنها قامت إلى صنم في زاوية البيت فسترته بثوب ، فقال لها يوسف : أي شيء تصنعين ؟ قالت : أستحي من إلهي هذا أن يراني على هذه السوأة ، فقال : أتستحين من صنم لا يعقل ولا يسمع ، ولا أستحي من إلهي القائم على كل نفس بما كسبت ؟ فهو البرهان الذي رأى ، قاله علي بن أبي طالب ، وعلي بن الحسين ، والضحاك .

والرابع : أن الله بعث إليه ملكا ، فكتب في وجه المرأة بالدم : " ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا " قاله الضحاك عن ابن عباس . وروي عن محمد بن كعب القرظي : أنه رأى هذه الآية مكتوبة بين عينيها ، وفي رواية أخرى عنه ، [ ص: 209 ] أنه رآها مكتوبة في الحائط . وروى مجاهد عن ابن عباس قال : بدت فيما بينهما كف ليس فيها عضد ولا معصم ، وفيها مكتوب ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا [الإسراء :32] ، فقام هاربا ، وقامت ، فلما ذهب عنها الرعب عادت وعاد ، فلما قعد إذا بكف قد بدت فيما بينهما فيها مكتوب واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله [البقرة :281] ، فقام هاربا ، فلما عاد ، قال الله تعالى لجبرئيل : أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة ، فانحط جبريل عاضا على كفه أو أصبعه وهو يقول : يا يوسف ، أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب عند الله في الأنبياء ؟! وقال وهب بن منبه : ظهرت تلك الكف وعليها مكتوب بالعبرانية أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت [الرعد :33] ، فانصرفا ، فلما عادا عادت وعليها مكتوب وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين [الانفطار :11،12] ، فانصرفا ، فلما عادا عادت وعليها مكتوب " ولا تقربوا الزنا . . . " الآية ، فعاد ، فعادت الرابعة وعليها مكتوب " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله " ، فولى يوسف هاربا .

الخامس : أنه سيده العزيز دنا من الباب ، رواه ابن إسحاق عن بعض أهل العلم . وقال ابن إسحاق : يقال : إن البرهان خيال سيده ، رآه عند الباب فهرب .

والسادس : أن البرهان أنه علم ما أحل الله مما حرم الله ، فرأى تحريم الزنا ، روي عن محمد بن كعب القرظي . قال ابن قتيبة : رأى حجة الله عليه ، وهي البرهان ، وهذا هو القول الصحيح ، وما تقدمه فليس بشيء ، وإنما هي أحاديث من أعمال القصاص ، وقد أشرت إلى فسادها في كتاب " المغني في التفسير " .

[ ص: 210 ] وكيف يظن بنبي لله كريم أنه يخوف ويرعب ويضطر إلى ترك هذه المعصية وهو مصر ؟! هذا غاية القبح .

قوله تعالى : " كذلك " أي : كذلك أريناه البرهان " لنصرف عنه السوء " وهو خيانة صاحبه " والفحشاء " ركوب الفاحشة " إنه من عبادنا المخلصين " قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر بكسر اللام ، والمعنى : إنه من عبادنا الذين أخلصوا دينهم . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي بفتح اللام ، أرادوا من الذين أخلصهم الله من الأسواء والفواحش . وبعض المفسرين يقول : السوء : الزنى ، والفحشاء : المعاصي .

التالي السابق


الخدمات العلمية