صفحة جزء
[ ص: 387 ] ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين

قوله تعالى : " ولقد جعلنا في السماء بروجا " في البروج ثلاثة أقوال :

أحدها : أنها بروج الشمس والقمر ، أي : منازلها ، قاله ابن عباس وأبو عبيدة في آخرين . قال ابن قتيبة : وأسماؤها : الحمل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدي ، والدلو ، والحوت .

والثاني : أنها قصور ، روي عن ابن عباس أيضا . وقال عطية : هي قصور في السماء فيها الحرس . وقال ابن قتيبة : أصل البروج : الحصون .

والثالث : أنها الكواكب ، قاله مجاهد ، وقتادة ، ومقاتل . قال أبو صالح : هي النجوم العظام . قال قتادة : سميت بروجا ، لظهورها .

قوله تعالى : " وزيناها " أي : حسناها بالكواكب .

وفي المراد بالناظرين قولان : أحدهما : أنهم المبصرون . والثاني : المعتبرون .

قوله تعالى : " وحفظناها من كل شيطان رجيم " أي : حفطناها أن يصل إليها شيطان أو يعلم من أمرها شيئا إلا استراقا ، ثم يتبعه الشهاب . والرجيم مشروح في (آل عمران :36) .

واختلف العلماء : هل كانت الشياطين ترمى بالنجوم قبل مبعث نبينا صلى الله عليه وسلم ، أم لا ؟ على قولين :

أحدهما : أنها لم ترم حتى بعث صلى الله عليه وسلم ، وهذا المعنى : مذكور في رواية [ ص: 388 ] سعيد بن جبير عن ابن عباس . وقد أخرج في " الصحيحين " من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب " ، وظاهر هذا الحديث أنها لم تكن قبل ذلك . قال الزجاج : ويدل على أنها إنما كانت بعد مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن شعراء العرب الذين يمثلون بالبرق والأشياء المسرعة لم يوجد في أشعارها ذكر الكواكب المنقضة ، فلما حدثت بعد مولد نبينا صلى الله عليه وسلم استعملت الشعراء ذكرها ، فقال ذو الرمة :


كذا كوكب في إثر عفرية مسوم في سواد الليل منقضب



والثاني : أنه قد كان ذلك قبل نبينا صلى الله عليه وسلم ، فروى مسلم في " صحيحه " [ ص: 389 ] من حديث علي بن الحسين عن ابن عباس قال : بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من أصحابه ، إذ رمي بنجم ، فاستنار ، فقال : " ما كنتم تقولون إذا كان مثل هذا في الجاهلية " ؟ قالوا : كنا نقول : يموت عظيم ، أو يولد عظيم ، قال : " فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته ، ولكن ربنا إذا قضى أمرا ، سبح حملة العرش ، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم ، حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء ، ثم يستخبر أهل السماء السابعة حملة العرش : ماذا قال ربكم ؟ فيخبرونهم ، ثم يستخبر أهل كل سماء أهل سماء ، حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء ، وتخطف الجن ويرمون ، فما جاؤوا به على وجهه فهو حق ، ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون " . وروي عن ابن عباس أن الشياطين كانت لا تحجب عن السموات ، فلما ولد عيسى ، منعت من ثلاث سماوات ، فلما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، منعوا من السموات كلها . وقال الزهري : قد كان يرمى بالنجوم قبل مبعث رسول الله ، ولكنها غلظت حين بعث صلى الله عليه وسلم ، وهذا مذهب ابن قتيبة ، قال : وعلى هذا وجدنا الشعر القديم ، قال بشر بن أبي خازم ، وهو جاهلي :


والعير يرهقها الغبار وجحشها     ينقض خلفهما انقضاض الكوكب



وقال أوس بن حجر ، وهو جاهلي :

[ ص: 390 ]

فانقض كالدريء يتبعه     نقع يثور تخاله طنبا



قوله تعالى : " إلا من استرق السمع " أي : اختطف ما سمعه من كلام الملائكة . قال ابن فارس : استرق السمع : إذا سمع مستخفيا . " فأتبعه " أي : لحقه " شهاب مبين " قال ابن قتيبة : كوكب مضيء . وقيل : " مبين " بمعنى : ظاهر يراه أهل الأرض . وإنما يسترق الشيطان ما يكون من أخبار الأرض ، فأما وحي الله عز وجل ، فقد صانه عنهم .

واختلفوا ، هل يقتل الشهاب ، أم لا ؟ على قولين :

أحدهما : أنه يحرق ويخبل ولا يقتل ، قاله ابن عباس ، ومقاتل .

والثاني : أنه يقتل ، قاله الحسن . فعلى هذا القول ، هل يقتل الشيطان قبل أن يخبر بما سمع ، فيه قولان :

أحدهما : أنه يقتل قبل ذلك ، فعلى هذا ، لا تصل أخبار السماء إلى غير الأنبياء . قال ابن عباس : ولذلك انقطعت الكهانة .

والثاني : أنه يقتل بعد إلقائه ما سمع إلى غيره من الجن ، ولذلك يعودون إلى الاستراق ، ولو لم يصل ، لقطعوا الاستراق .

التالي السابق


الخدمات العلمية