صفحة جزء
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم [ ص: 483 ] ما تفعلون ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون

قوله تعالى : " إن الله يأمر بالعدل " فيه أربعة أقوال :

أحدها : أنه شهادة أن لا إله إلا الله ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .

والثاني : أنه الحق ، رواه الضحاك عن ابن عباس .

والثالث : أنه استواء السريرة والعلانية في العمل لله تعالى ، قاله سفيان بن عيينة .

والرابع : أنه القضاء بالحق ، ذكره الماوردي . قال أبو سليمان : العدل في كلام العرب : الإنصاف ، وأعظم الإنصاف : الاعتراف للمنعم بنعمته .

وفي المراد بالإحسان خمسة أقوال :

أحدها : أنه أداء الفرائض ، رواه أبي طلحة عن ابن عباس . والثاني : العفو ، رواه الضحاك عن ابن عباس . والثالث : الإخلاص ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . والرابع : أن تعبد الله كأنك تراه ، رواه عطاء عن ابن عباس . والخامس : أن تكون السريرة أحسن من العلانية ، قاله سفيان بن عيينة .

فأما قوله تعالى : " وإيتاء ذي القربى " فالمراد به : صلة الأرحام . وفي الفحشاء قولان :

أحدهما : أنها الزنا ، قاله ابن عباس . والثاني : المعاصي ، قاله مقاتل .

[ ص: 484 ] وفي " المنكر " أربعة أقوال :

أحدها : أنه الشرك ، قاله مقاتل . والثاني : أنه ما لا يعرف في شريعة ولا سنة . والثالث : أنه ما وعد الله عليه النار ، ذكرهما ابن السائب . والرابع : أن تكون علانية الإنسان أحسن من سريرته ، قاله سفيان بن عيينة .

فأما " البغي " فقال ابن عباس : هو الظلم ، وقد سبق شرحه في مواضع [البقرة :173، والأعراف :33 ، ويونس :23،90] .

قوله تعالى : " يعظكم " قال ابن عباس : يؤدبكم ، وقد ذكرنا معنى الوعظ في (سورة النساء :58) . و " تذكرون " بمعنى : " تتعظون " قال ابن مسعود : هذه الآية أجمع آية في القرآن لخير أو لشر . وقال الحسن : والله ما ترك العدل والإحسان شيئا من طاعة [الله] إلا جمعاه ، ولا تركت الفحشاء والمنكر والبغي شيئا من معصية الله إلا جمعوه .

قوله تعالى : " وأوفوا بعهد الله " اختلفوا فيمن نزلت على قولين :

أحدهما : أنها نزلت في حلف أهل الجاهلية ، قاله مجاهد ، وقتادة .

والثاني : أنها نزلت في الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال المفسرون : العهد الذي يجب الوفاء به ، هو الذي يحسن فعله ، فإذا عاهد العبد عليه ، وجب الوفاء به ، والوعد من العهد " ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها " أي : بعد تغليظها وتشديدها بالعزم والعقد على اليمين ، بخلاف لغو اليمين ، ووكدت الشيء توكيدا ، لغة أهل الحجاز . فأما أهل نجد ، فيقولون : أكدته تأكيدا . وقال الزجاج : يقال : وكدت الأمر ، وأكدت لغتان جيدتان ، والأصل الواو ، والهمزة بدل منها .

[ ص: 485 ] قوله تعالى : " وقد جعلتم الله عليكم كفيلا " أي : بالوفاء ، وذلك أن من حلف بالله ، فكأنه أكفل الله بالوفاء بما حلف عليه .

وللمفسرين في معنى " كفيلا " ثلاثة أقوال :

أحدها : شهيدا ، قاله سعيد بن جبير . والثاني : وكيلا ، قاله مجاهد .

والثالث : حفيظا مراعيا لعقدكم ، قاله أبو سليمان الدمشقي .

قوله تعالى : " ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها " قال مجاهد : هذا فعل نساء أهل نجد ، تنقض إحداهن حبلها ، ثم تنفشه ، ثم تخلطه بالصوف فتغزله . وقال مقاتل : هي امرأة من قريش تسمى " ريطة " بنت عمرو بن كعب ، كانت إذا غزلت ، نقضته . وقال ابن السائب : اسمها " رائطة " وقال ابن الأنباري : اسمها " ريطة " بنت عمرو المرية ، ولقبها الجعراء ، وهي من أهل مكة ، وكانت معروفة عند المخاطبين ، فعرفوها بوصفها ، ولم يكن لها نظير في فعلها ذلك ، كانت متناهية الحمق ، تغزل الغزل من القطن أو الصوف فتحكمه ، ثم تأمر جاريتها بتقطيعه . وقال بعضهم : كانت تغزل هي وجواريها ، ثم تأمرهن أن ينقضن ما غزلن ، فضربها الله مثلا لناقضي العهد . و " نقضت " بمعنى : تنقض ، كقوله : ونادى أصحاب الجنة [الأعراف :43] بمعنى : وينادي .

وفي المراد بالغزل قولان :

أحدهما : أنه الغزل المعروف ، سواء كان من قطن أو صوف أو شعر ، وهو قول الأكثرين .

والثاني : أنه الحبل ، قاله مجاهد . وقوله : " من بعد قوة " قال قتادة : من بعد إبرام ، وقوله : " أنكاثا " أي : أنقاضا . قال ابن قتيبة : الأنكاث : ما نقض من غزل الشعر وغيره . وواحدها نكث . يقول : لا تؤكدوا على [ ص: 486 ] أنفسكم الأيمان والعهود ، ثم تنقضوا ذلك وتحنثوا فيه ، فتكونوا كامرأة غزلت ونسجت ، ثم نقضت ذلك النسج ، فجعلته أنكاثا .

قوله تعالى : " تتخذون أيمانكم دخلا بينكم " أي : دغلا ، ومكرا ، وخديعة ، وكل شيء دخله عيب ، فهو مدخول ، وفيه دخل .

قوله تعالى : " أن تكون أمة " قال ابن قتيبة : لأن تكون أمة ، " هي أربى " أي : هي أغنى " من أمة " . وقال [الزجاج] : المعنى : بأن تكون أمة هي أكثر ، يقال : ربا الشيء يربو : إذا كثر . قال ابن الأنباري : قال اللغويون : " أربى " : أزيد عددا . قال مجاهد : كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعز ، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون أولئك ، فنهوا عن ذلك . وقال الفراء : المعنى : لا تغدروا بقوم لقلتهم وكثرتكم ، أو قلتكم وكثرتهم وقد غررتموهم بالأيمان .

قوله تعالى : " إنما يبلوكم الله به " في هذه الآية ثلاثة أقوال :

أحدها : أنها ترجع إلى الكثرة ، قاله سعيد بن جبير ، وابن السائب ، ومقاتل ، فيكون المعنى : إنما يختبركم الله بالكثرة ، فإذا كان بين قومين عهد ، فكثر أحدهما ، فلا ينبغي أن يفسخ الذي بينه وبين الأقل . فإن قيل : إذا كنى عن الكثرة ، فهلا قيل بها ؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري ، بأن الكثرة ليس تأنيثها حقيقيا ، فحملت على معنى التذكير ، كما حملت الصيحة على معنى الصياح .

والثاني : أنها ترجع إلى العهد ، فإنه لدلالة الأيمان عليه ، يجري مجرى المظهر ، ذكره ابن الأنباري .

والثالث : أنها ترجع إلى الأمر بالوفاء ، ذكره بعض المفسرين .

قوله تعالى : " ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة " قد فسرناه في آخر (هود :118) .

[ ص: 487 ] قوله تعالى : " ولكن يضل من يشاء " صريح في تكذيب القدرية ، حيث أضاف الإضلال والهداية إليه ، وعلقهما بمشيئته .

التالي السابق


الخدمات العلمية