صفحة جزء
قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا .

قوله تعالى: " فلا تسألني " قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وعاصم، وحمزة، والكسائي: ( فلا تسألني ) ساكنة اللام . وقرأ نافع: ( فلا تسألني ) مفتوحة اللام مشددة النون . وقرأ ابن عامر في رواية الداجوني: ( فلا تسألن عن [ ص: 171 ] شيء ) بتحريك اللام من غير ياء والنون مكسورة، والمعنى: لا تسألني عن شيء مما أفعله، " حتى أحدث لك منه ذكرا " ; أي: حتى أكون أنا الذي أبينه لك ; لأن علمه قد غاب عنك .

قوله تعالى: " خرقها " ; أي: شقها . قال المفسرون: قلع منها لوحا، وقيل: لوحين مما يلي الماء، فحشاها موسى بثوبه، وأنكر عليه ما فعل بقوله: " أخرقتها لتغرق أهلها " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وعاصم، وابن عامر: ( لتغرق ) بالتاء ( أهلها ) بالنصب . وقرأ حمزة والكسائي: ( ليغرق ) بالياء ( أهلها ) برفع اللام . " لقد جئت شيئا إمرا " وفيه ثلاثة أقوال:

أحدها: منكرا، قاله مجاهد . وقال الزجاج: عظيما من المنكر . والثاني: عجبا، قاله قتادة وابن قتيبة . والثالث: داهية، قاله أبو عبيدة .

قوله تعالى: " لا تؤاخذني بما نسيت " في هذا النسيان ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه على حقيقته وأنه نسي، روى ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أن الأولى كانت نسيانا من موسى " .

والثاني: أنه لم ينس، ولكنه من معاريض الكلام، قاله أبي بن كعب وابن عباس .

والثالث: أنه بمعنى الترك، فالمعنى: لا تؤاخذني بما تركته مما عاهدتك عليه، ذكره ابن الأنباري .

قوله تعالى: " ولا ترهقني " قال الفراء: لا تعجلني . وقال أبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج: لا تغشني . قال أبو زيد: يقال: أرهقته عسرا: إذا كلفته ذلك . قال الزجاج: والمعنى: عاملني باليسر لا بالعسر . [ ص: 172 ]

قوله تعالى: " فانطلقا " يعني: موسى والخضر . قال الماوردي: يحتمل أن يوشع تأخر عنهما ; لأن الإخبار عن اثنين، ويحتمل أن يكون معهما ولم يذكر ; لأنه تبع لموسى، فاقتصر على حكم المتبوع .

قوله تعالى: " حتى إذا لقيا غلاما " اختلفوا في هذا الغلام، هل كان بالغا أم لا ؟ على قولين:

أحدهما: أنه لم يكن بالغا، قاله ابن عباس، ومجاهد، والأكثرون .

والثاني: أنه كان شابا قد قبض على لحيته، حكاه الماوردي عن ابن عباس أيضا، واحتج بأن غير البالغ لم يجر عليه قلم، فلم يستحق القتل . وقد يسمى الرجل غلاما، قالت ليلى الأخيلية تمدح الحجاج:


[ شفاها من الداء العضال الذي بها ] غلام إذا هز القناة سقاها



وفي صفة قتله له ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه اقتلع رأسه، وقد ذكرناه في حديث أبي . والثاني: كسر عنقه، قاله ابن عباس . والثالث: أضجعه وذبحه بالسكين، قاله سعيد بن جبير .

قوله تعالى: ( أقتلت نفسا زاكية ) قرأ الكوفيون وابن عامر: ( زكية ) بغير ألف والياء مشددة . وقرأ الباقون بالألف من غير تشديد . قال الكسائي: هما لغتان بمعنى واحد، وهما بمنزلة القاسية والقسية .

وللمفسرين فيها ستة أقوال:

أحدها: أنها التائبة، روي عن ابن عباس أنه قال: الزكية: التائبة، [ وبه ] قال الضحاك . [ ص: 173 ]

والثاني: أنها المسلمة، روي عن ابن عباس أيضا .

والثالث: أنها الزكية التي لم تبلغ الخطايا، قاله سعيد بن جبير .

والرابع: أنها الزكية النامية، قاله قتادة . وقال ابن الأنباري: القويمة في تركيبها .

والخامس: أن الزكية: المطهرة، قاله أبو عبيدة .

والسادس: أن الزكية: البريئة التي لم يظهر ما يوجب قتلها، قاله الزجاج .

وقد فرق بعضهم بين الزاكية والزكية، فروي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: الزاكية: التي لم تذنب قط، والزكية: التي أذنبت ثم تابت . وروي عن أبي عبيدة أنه قال: الزاكية في البدن، والزكية في الدين .

قوله تعالى: " بغير نفس " ; أي: بغير قتل نفس، " لقد جئت شيئا نكرا " قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وحمزة، والكسائي: ( نكرا ) خفيفة في كل القرآن، إلا قوله: إلى شيء نكر [ القمر: 6 ]، وخفف ابن كثير أيضا ( إلى شيء نكر ) . وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم: ( نكرا ) و( إلى شيء نكر ) مثقل . والمخفف إنما هو من المثقل، كالعنق والعنق، والنكر والنكر . قال الزجاج: والمعنى: لقد أتيت شيئا نكرا . ويجوز أن يكون معناه: جئت بشيء نكر، فلما حذف الباء أفضى الفعل فنصب نكرا . و " نكرا " أقل منكرا من قوله: " إمرا " ; لأن تغريق من في السفينة كان عنده أنكر من قتل نفس واحدة .

قوله تعالى: " قال ألم أقل لك " .

إن قيل: لم ذكر لك " هاهنا واختزله من الموضع الذي قبله ؟

فالجواب: أن إثباته للتوكيد واختزاله لوضوح المعنى، وكلاهما معروف [ ص: 174 ] عند الفصحاء . تقول العرب: قد قلت لك: اتق الله، وقد قلت لك: يا فلان اتق الله، وأنشد ثعلب:


قد كنت حذرتك آل المصطلق     وقلت يا هذا أطعني وانطلق



فقوله: يا هذا، توكيد لا يختل الكلام بسقوطه . وسمعت الشيخ أبا محمد الخشاب يقول: وقره في الأول، فلم يواجهه بكاف الخطاب، فلما خالف في الثاني واجهه بها .

قوله تعالى: " إن سألتك عن شيء " ; أي: سؤال توبيخ وإنكار، " بعدها " ; أي: بعد هذه المسألة، " فلا تصاحبني " وقرأ كذلك معاذ القارئ، وأبو نهيك، وأبو المتوكل، والأعرج، إلا أنهم شددوا النون . قال الزجاج: ومعناه: إن طلبت صحبتك فلا تتابعني على ذلك . وقرأ أبي بن كعب، وابن أبي عبلة، ويعقوب: ( فلا تصحبني ) بفتح التاء من غير ألف . وقرأ ابن مسعود، وأبو العالية، والأعمش كذلك، إلا أنهم شددوا النون . وقرأ أبو رجاء، وأبو عثمان النهدي، والنخعي، والجحدري: ( تصحبني ) بضم التاء وكسر الحاء وسكون الصاد والباء . قال الزجاج: فيهما وجهان:

أحدهما: لا تتابعني في شيء ألتمسه منك، يقال: قد أصحب المهر: إذا انقاد .

والثاني: لا تصحبني علما من علمك .

" قد بلغت من لدني " قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: ( من لدني ) مثقل . وقرأ نافع: ( من لدني ) بضم الدال مع تخفيف النون . وروى أبو بكر عن عاصم: ( من لدني ) بفتح اللام مع تسكين الدال . وفي رواية أخرى عن عاصم ( لدني ) بضم اللام وتسكين الدال . قال الزجاج: [ ص: 175 ] وأجودها تشديد النون ; لأن أصل ( لدن ) الإسكان، فإذا أضفتها إلى نفسك زدت نونا، ليسلم سكون النون الأولى، تقول: من لدن زيد، فتسكن النون ثم تضيف إلى نفسك فتقول: من لدني، كما تقول: عن زيد وعني . فأما إسكان دال ( لدني ) فإنهم أسكنوها، كما تقول في عضد: عضد، فيحذفون الضم . قال ابن عباس: يريد: إنك قد أعذرت فيما بيني وبينك، يعني: أنك قد أخبرتني أني لا أستطيع معك صبرا .

قوله تعالى: " فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية " فيها ثلاثة أقوال:

أحدها: أنها أنطاكية، قاله ابن عباس . والثاني: الأبلة، قاله ابن سيرين . والثالث: باجروان، قاله مقاتل .

قوله تعالى: " استطعما أهلها " ; أي: سألاهم الضيافة، " فأبوا أن يضيفوهما " روى المفضل عن عاصم: ( يضيفوهما ) بضم الياء الأولى وكسر الضاد وتخفيف الياء الثانية . وقرأ أبو الجوزاء كذلك، إلا أنه فتح الياء [ الأولى ] . وقرأ الباقون: ( يضيفوهما ) بفتح الضاد وتشديد الياء الثانية وكسرها . قال أبو عبيدة: ومعنى " يضيفوهما " : ينزلوهما منزل الأضياف، يقال: ضفت أنا، وأضافني الذي ينزلني . وقال الزجاج: يقال: ضفت الرجل: إذا نزلت عليه، وأضفته: إذا أنزلته وقريته . وقال ابن قتيبة: [ يقال ]: ضيفت الرجل: إذا أنزلته منزلة الأضياف، ومنه هذه الآية، وأضفته: أنزلته، وضفته: نزلت عليه . وروى أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " كانوا أهل قرية لئاما " .

قوله تعالى: " فوجدا فيها جدارا " ; أي: حائطا . قال ابن فارس: وجمعه [ ص: 176 ] جدر، والجدر: أصل الحائط . ومنه حديث الزبير: " ثم دع الماء يرجع إلى الجدر " ، والجيدر: القصير .

قول تعالى: " يريد أن ينقض " وقرأ أبي بن كعب وأبو رجاء: ( ينقاض ) بألف ممدودة وضاد معجمة . وقرأ ابن مسعود، وأبو العالية، وأبو عثمان النهدي: ( ينقاص ) بألف ومدة وصاد غير معجمة، وكله بلا تشديد . قال الزجاج: فمعنى ينقض: يسقط بسرعة، وينقاص غير معجمة: ينشق طولا، يقال: انقاصت سنه: إذا انشقت . قال ابن مقسم: انقاصت سنه، وانقاضت - بالصاد والضاد -على معنى واحد .

فإن قيل: كيف نسبت الإرادة إلى ما لا يعقل ؟

فالجواب: أن هذا على وجه المجاز تشبيها بمن يعقل، ويريد: لأن هيأته في التهيؤ للوقوع قد ظهرت كما يظهر من أفعال المريدين القاصدين، فوصف بالإرادة ; إذ كانت الصورتان واحدة، وقد أضافت العرب الأفعال إلى ما لا يعقل تجوزا، قال الله عز وجل: ولما سكت عن موسى الغضب [ الأعراف: 154 ]، والغضب لا يسكت، وإنما يسكت صاحبه، وقال: فإذا عزم الأمر [ محمد: 21 ]، وأنشدوا من ذلك:


إن دهرا يلف شملي بجمل     لزمان يهم بالإحسان



وقال آخر: [ ص: 177 ]


يريد الرمح صدر أبي براء     ويرغب عن دماء بني عقيل



وقال آخر:


ضحكوا والدهر عنهم ساكت     ثم أبكاهم دما لما نطق



وقال آخر:


يشكو إلي جملي طول السرى      [ صبرا جميلا فكلانا مبتلى ]



وهذا كثير في أشعارهم .

قوله تعالى: " فأقامه " ; أي: سواه ; لأنه وجده مائلا .

وفي كيفية ما فعل قولان: أحدهما: أنه دفعه بيده فقام . والثاني: هدمه ثم قعد يبنيه، روي القولان عن ابن عباس .

قوله تعالى: " لو شئت لاتخذت عليه أجرا " قرأ ابن كثير وأبو عمرو : ( لتخذت ) بكسر الخاء، غير أن أبا عمرو كان يدغم الذال، وابن كثير يظهرها . وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: ( لاتخذت ) وكلهم أدغموا، إلا حفصا عن عاصم، فإنه لم يدغم مثل ابن كثير . قال الزجاج: يقال: تخذ يتخذ في معنى: اتخذ يتخذ . وإنما قال له هذا ; لأنهم لم يضيفوهما .

قوله تعالى: " قال " يعني: الخضر، " هذا " يعني: الإنكار علي، " فراق بيني وبينك " ; أي: هو المفرق بيننا . قال الزجاج: المعنى: هذا فراق بيننا ; [ ص: 178 ] أي: فراق اتصالنا، وكرر ( بين ) توكيدا، ومثله في الكلام: أخزى الله الكاذب مني ومنك . وقرأ أبو رزين، وابن السميفع، وأبو العالية، وابن أبي عبلة: ( هذا فراق ) بالتنوين ( بيني وبينك ) بنصب النون . قال ابن عباس: كان قول موسى في السفينة والغلام لربه، وكان قوله في الجدار لنفسه، لطلب شيء من الدنيا .

التالي السابق


الخدمات العلمية