صفحة جزء
[ ص: 204 ]

سورة مريم

وهي مكية بإجماعهم من غير خلاف علمناه . وقال مقاتل: هي مكية غير سجدتها فإنها مدنية . وقال هبة الله المفسر: هي مكية غير آيتين منها، قوله: فخلف من بعدهم خلف والتي تليها [ مريم: 59، 60 ] .

بسم الله الرحمن الرحيم

كهيعص ذكر رحمت ربك عبده زكريا إذ نادى ربه نداء خفيا قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا .

قوله تعالى: " كهيعص " قرأ ابن كثير: ( كهيعص ذكر ) بفتح الهاء والياء، وتبيين الدال التي في هجاء ( صاد ) . وقرأ أبو عمرو: ( كهيعص ) بكسر الهاء وفتح الياء، ويدغم الدال في الذال . وكان نافع يلفظ بالهاء والياء بين الكسر والفتح، ولا يدغم الدال التي في هجاء ( صاد ) في الذال من ( ذكر ) . وقرأ أبو بكر عن عاصم، والكسائي بكسر الهاء والياء، إلا أن الكسائي لا يبين الدال، وعاصم [ ص: 205 ] يبينها . وقرأ ابن عامر وحمزة بفتح الهاء وكسر الياء ويدغمان . وقرأ أبي بن كعب: ( كهيعص ) برفع الهاء وفتح الياء . وقد ذكرنا في أول ( البقرة ) ما يشتمل على بيان هذا الجنس . وقد خص المفسرون هذه الحروف المذكورة هاهنا بأربعة أقوال:

أحدها: أنها حروف من أسماء الله تعالى، قاله الأكثرون . ثم اختلف هؤلاء في الكاف من أي اسم هو، على أربعة . أقوال: أحدها: أنه من اسم الله الكبير . والثاني: من الكريم . والثالث: من الكافي، روى هذه الأقوال الثلاثة سعيد بن جبير عن ابن عباس . والرابع: أنه من الملك، قاله محمد بن كعب . فأما الهاء فكلهم قالوا: هي من اسمه الهادي، إلا القرظي فإنه قال: من اسمه الله . وأما الياء ففيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها من حكيم . والثاني: من رحيم . والثالث: من أمين، روى هذه الأقوال الثلاثة سعيد بن جبير عن ابن عباس . فأما العين ففيها أربعة أقوال: أحدها: أنها من عليم . والثاني: من عالم . والثالث: من عزيز، رواها أيضا سعيد [ بن جبير ] عن ابن عباس . والرابع: أنها من عدل، قاله الضحاك . وأما الصاد ففيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها من صادق . والثاني: من صدوق، رواهما سعيد [ بن جبير ] أيضا عن ابن عباس . والثالث: من الصمد، قاله محمد بن كعب .

والقول الثاني: أن " كهيعص " قسم أقسم الله به، وهو من أسمائه، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس . وروي عن علي عليه السلام أنه قال: هو اسم من أسماء الله تعالى . وروي عنه أنه كان يقول: [ يا ] كهيعص اغفر لي . قال الزجاج: والقسم بهذا والدعاء لا يدل على أنه اسم واحد ; لأن الداعي إذا علم أن الدعاء بهذه الحروف يدل على صفات الله فدعا بها، فكأنه قال: يا كافي، [ ص: 206 ] يا هادي، يا عالم، يا صادق، وإذا أقسم بها فكأنه قال: والكافي الهادي العالم الصادق، وأسكنت هذه الحروف ; لأنها حروف تهج، النية فيها الوقف .

والثالث: أنه اسم للسورة، قاله الحسن ومجاهد .

والرابع: اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة .

فإن قيل: لم قالوا: هايا، ولم يقولوا في الكاف: كا، وفي العين: عا، وفي الصاد: صا، لتتفق المباني كما اتفقت العلل ؟

فقد أجاب عنه ابن الأنباري، فقال: حروف المعجم التسعة والعشرون تجري مجرى الرسالة والخطبة، فيستقبحون فيها اتفاق الألفاظ واستواء الأوزان، كما يستقبحون ذلك في خطبهم ورسائلهم، فيغيرون بعض الكلم ليختلف الوزن وتتغير المباني، فيكون ذلك أعذب على الألسن وأحلى في الأسماع .

قوله تعالى: " ذكر رحمت ربك " قال الزجاج: الذكر مرفوع بالمضمر، المعنى: هذا الذي نتلو عليك ذكر رحمة ربك عبده . قال الفراء: وفي الكلام تقديم وتأخير، المعنى: ذكر ربك عبده بالرحمة، و " زكريا " في موضع نصب .

قوله تعالى: " إذ نادى ربه " النداء هاهنا بمعنى الدعاء .

وفي علة إخفائه لذلك ثلاثة أقوال:

أحدها: ليبعد عن الرياء، قاله ابن جريج .

والثاني: لئلا يقول الناس: انظروا إلى هذا الشيخ يسأل الولد على الكبر، قاله مقاتل .

والثالث: لئلا يعاديه بنو عمه ويظنوا أنه كره أن يلوا مكانه بعده، ذكره [ ص: 207 ] أبو سليمان الدمشقي . وهذه القصة تدل على أن المستحب إسرار الدعاء، ومنه الحديث: " إنكم لا تدعون أصم " .

قوله تعالى: " قال رب إني وهن العظم مني " وقرأ معاذ القارئ والضحاك: ( وهن ) بضم الهاء ; أي: ضعف . قال الفراء وغيره: وهن العظم، ووهن، بفتح الهاء وكسرها، والمستقبل على الحالين كليهما: يهن . وأراد أن قوة عظامه قد ذهبت لكبره، وإنما خص العظم ; لأنه الأصل في التركيب . وقال قتادة: شكا ذهاب أضراسه .

قوله تعالى: " واشتعل الرأس شيبا " يعني: انتشر الشيب فيه كما ينتشر شعاع النار في الحطب، وهذا من أحسن الاستعارات . " ولم أكن بدعائك " ; أي: بدعائي إياك، " رب شقيا " ; أي: لم أكن أتعب بالدعاء ثم أخيب ; لأنك قد عودتني الإجابة، يقال: شقي فلان بكذا: إذا تعب بسببه ولم ينل مراده .

قوله تعالى: " وإني خفت الموالي " يعني: الذين يلونه في النسب، وهم بنو العم والعصبة، " من ورائي " ; أي: من بعد موتي .

وفي ما خافهم عليه قولان:

أحدهما: أنه خاف أن يرثوه، قاله ابن عباس . [ ص: 208 ]

فإن اعترض عليه معترض فقال: كيف يجوز لنبي أن ينفس على قراباته بالحقوق المفروضة لهم بعد موته ؟

فعنه جوابان: أحدهما: أنه لما كان نبيا، والنبي لا يورث، خاف أن يرثوا ماله فيأخذوا ما لا يجوز لهم . والثاني: أنه غلب عليه طبع البشر، فأحب أن يتولى ماله ولده، ذكرهما ابن الأنباري .

قلت: وبيان هذا أنه لا بد أن يتولى ماله وإن لم يكن ميراثا، فأحب أن يتولاه ولده .

والقول الثاني: أنه خاف تضييعهم للدين ونبذهم إياه، ذكره جماعة من المفسرين .

وقرأ عثمان، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمرو، وابن جبير، ومجاهد، وابن أبي شريح عن الكسائي: ( خفت) بفتح الخاء وتشديد الفاء على معنى ( قلت ) ; فعلى هذا يكون إنما خاف على علمه ونبوته ألا يورثا فيموت العلم . وأسكن ابن شهاب الزهري ياء ( الموالي ) .

قوله تعالى: " من ورائي " أسكن الجمهور هذه الياء، وفتحها ابن كثير في رواية قنبل . وروى عنه شبل: ( وراي )، مثل: ( عصاي ) .

قوله تعالى: " فهب لي من لدنك " ; أي: من عندك، " وليا " ; أي: ولدا صالحا يتولاني .

قوله تعالى: " يرثني ويرث من آل يعقوب " قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة: ( يرثني ويرث ) برفعهما . وقرأ أبو عمرو والكسائي: ( يرثني ويرث ) بالجزم فيهما . قال أبو عبيدة: من قرأ بالرفع [ ص: 209 ] فهو على الصفة للولي، فالمعنى: هب لي وليا وارثا، ومن جزم فعلى الشرط والجزاء، كقولك: إن وهبته لي ورثني .

وفي المراد بهذا الميراث أربعة أقوال:

أحدها: يرثني مالي، ويرث من آل يعقوب النبوة، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال أبو صالح .

والثاني: يرثي العلم، ويرث من آل يعقوب الملك، فأجابه الله تعالى إلى وراثة العلم دون الملك، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا .

والثالث: يرثني نبوتي وعلمي، ويرث من آل يعقوب النبوة أيضا، قاله الحسن .

والرابع: يرثني النبوة، ويرث من آل يعقوب الأخلاق، قاله عطاء . قال مجاهد: كان زكريا من ذرية يعقوب، وزعم الكلبي أن آل يعقوب كانوا أخواله، وأنه ليس بيعقوب أبي يوسف . وقال مقاتل: هو يعقوب بن ماثان، وكان يعقوب هذا وعمران - أبو مريم - أخوين .

والصحيح أنه لم يرد ميراث المال لوجوه:

أحدها: أنه قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة " . [ ص: 210 ]

والثاني: [ أنه ] لا يجوز أن يتأسف نبي الله على مصير ماله بعد موته، إذا وصل إلى وارثه المستحق له شرعا .

والثالث: أنه لم يكن ذا مال . وقد روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن زكريا كان نجارا .

قوله تعالى: " واجعله رب رضيا " قال اللغويون: أي: مرضيا، فصرف عن مفعول إلى فعيل، كما قالوا: مقتول وقتيل .

التالي السابق


الخدمات العلمية