صفحة جزء
إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد [ ص: 419 ] الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم .

قوله تعالى : " ويصدون عن سبيل الله " ; أي : يمنعون الناس من الدخول في الإسلام . قال الزجاج : ولفظ " يصدون " لفظ مستقبل عطف به على لفظ الماضي ; لأن معنى " الذين كفروا " : الذين هم كافرون ، فكأنه قال : إن الكافرين والصادين ، فأما خبر " إن " فمحذوف ، فيكون المعنى : إن الذين هذه صفتهم هلكوا .

وفي " المسجد الحرام " قولان :

أحدهما : جميع الحرم . روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : كانوا يرون الحرم كله مسجدا .

والثاني : نفس المسجد ، حكاه الماوردي .

قوله تعالى : " الذي جعلناه للناس " هذا وقف التمام .

وفي معناه قولان :

أحدهما : جعلناه للناس كلهم ، لم نخص به بعضهم دون بعض ، هذا على أنه جميع الحرم .

والثاني : جعلناه قبلة لصلاتهم ومنسكا لحجتهم ، وهذا على أنه نفس المسجد . وقرأ إبراهيم النخعي ، وابن أبي عبلة ، وحفص عن عاصم : ( سواء ) بالنصب ، فيتوجه الوقف على ( سواء )، وقد وقف بعض القراء كذلك . قال أبو علي الفارسي : أبدل العاكف والبادي من الناس من حيث كانا كالشامل لهم ، فصار المعنى : الذي جعلناه للعاكف والبادي سواء . فأما العاكف : فهو المقيم ، والبادي : الذي يأتيه من غير أهله ، وهذا من قولهم : بدا القوم : إذا خرجوا [ ص: 420 ] من الحضر إلى الصحراء . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : ( البادي ) بالياء ، غير أن ابن كثير وقف بياء ، وأبو عمرو بغير ياء . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، والمسيبي عن نافع بغير ياء في الحالتين .

ثم في معنى الكلام قولان :

أحدهما : أن العاكف والبادي يستويان في سكنى مكة والنزول بها ، فليس أحدهما أحق بالمنزل من الآخر ، غير أنه لا يخرج أحد من بيته ، هذا قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وإلى نحو هذا ذهب أبو حنيفة وأحمد ، ومذهب هؤلاء أن كراء دور مكة وبيعها حرام ، هذا على أن المسجد : الحرم كله .

والثاني : أنهما يستويان في تفضيله وحرمته ، وإقامة المناسك به ، هذا قول الحسن ومجاهد . [ ومنهم ] من أجاز بيع دور مكة ، وإليه يذهب الشافعي . وعلى هذا يجوز أن يراد بالمسجد : الحرم ، ويجوز أن يراد نفس المسجد .

قوله تعالى : " ومن يرد فيه بإلحاد " الإلحاد في اللغة : العدول عن القصد ، والباء زائدة ، كقوله تعالى : تنبت بالدهن [ المؤمنون : 20 ] ، وأنشدوا :


بواد يمان ينبت الشث صدره وأسفله بالمرخ والشبهان



المعنى : وأسفله ينبت المرخ ، وقال آخر :


هن الحرائر لا ربات أخمرة     سود المحاجر لا يقرأن بالسور

[ ص: 421 ]

وقال آخر :


نحن بنو جعدة أرباب الفلج     نضرب بالسيف ونرجو بالفرج



هذا قول جمهور اللغويين . قال ابن قتيبة : والباء قد تزاد في الكلام كهذه الآية ، وكقوله تعالى : اقرأ باسم ربك [ العلق : 1 ] ، وهزي إليك بجذع النخلة [ مريم : 24 ] ، بأييكم المفتون [ القلم : 6 ] ، تلقون إليهم بالمودة [ الممتحنة : 1 ] ، عينا يشرب بها [ الإنسان : 6 ] ; أي : يشربها ، وقد تزاد ( من ) كقوله تعالى : ما أريد منهم من رزق [ الذاريات : 57 ] ، وتزاد اللام كقوله تعالى : للذين هم لربهم يرهبون [ الأعراف : 154 ] ، والكاف كقوله تعالى : ليس كمثله شيء [ الشورى : 11 ] ، و( عن ) كقوله تعالى : يخالفون عن أمره [ النور : 63 ] ، و( إن ) كقوله تعالى : فإنه ملاقيكم [ الجمعة : 8 ] ، و( إن ) الخفيفة كقوله تعالى : فيما إن مكناكم فيه [ الأحقاف : 26 ] ، و( ما ) كقوله تعالى : عما قليل ليصبحن نادمين [ المؤمنون : 40 ] ، والواو كقوله تعالى : وتله للجبين وناديناه [ الصافات : 103 ، 104 ] .

وفي المراد بهذا الإلحاد خمسة أقوال :

أحدها : أنه الظلم ، رواه العوفي عن ابن عباس . وقال مجاهد : هو عمل سيئة ، فعلى هذا تدخل فيه جميع المعاصي ، وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال : لا تحتكروا الطعام بمكة ، فإن احتكار الطعام بمكة إلحاد بظلم . [ ص: 422 ]

والثاني : أنه الشرك ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال الحسن وقتادة .

والثالث : الشرك والقتل ، قاله عطاء .

والرابع : أنه استحلال محظورات الإحرام ، وهذا المعنى محكي عن عطاء أيضا .

والخامس : استحلال الحرام تعمدا ، قاله ابن جريج .

فإن قيل : هل يؤاخذ الإنسان إن أراد الظلم بمكة ولم يفعله ؟

فالجواب من وجهين :

أحدهما : أنه إذا هم بذلك في الحرم خاصة ، عوقب ، هذا مذهب ابن مسعود ، فإنه قال : لو أن رجلا هم بخطيئة لم تكتب عليه ما لم يعملها ، ولو أن رجلا هم بقتل مؤمن عند البيت وهو بـ " عدن أبين " ، أذاقه الله في الدنيا من عذاب أليم . وقال الضحاك : إن الرجل ليهم بالخطيئة بمكة وهو بأرض أخرى ، فتكتب عليه ولم يعملها . وقال مجاهد : تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات . وسئل الإمام أحمد : هل تكتب السيئة أكثر من واحدة ؟ فقال : لا ، إلا بمكة ; لتعظيم البلد . وأحمد على هذا يرى فضيلة المجاورة بها ، وقد جاور جابر بن عبد الله ، وكان ابن عمر يقيم بها .

والثاني : أن معنى " ومن يرد " : من يعمل . قال أبو سليمان الدمشقي : هذا قول سائر من حفظنا عنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية