صفحة جزء
وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين . لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين . إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون . ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم

قوله تعالى: وتفقد الطير التفقد : طلب ما غاب عنك ; والمعنى أنه طلب ما فقد من الطير ; والطير اسم جامع للجنس ، وكانت الطير تصحب سليمان في سفره تظله بأجنحتها فقال ما لي لا أرى الهدهد قرأ ابن كثير ، وعاصم ، والكسائي : " ما لي لا أرى الهدهد " بفتح الياء . وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة بالسكون ، والمعنى : ما للهدهد [لا أراه]؟! تقول العرب : ما لي أراك كئيبا ، أي : ما لك؟ فهذا من المقلوب الذي معناه معلوم .

قال المفسرون : لما فصل سليمان عن وادي النمل ، وقع في قفر من الأرض ، فعطش الجيش فسألوه الماء ، وكان الهدهد يدله على الماء ، فإذا قال له : هاهنا الماء ، شققت الشياطين الصخر وفجرت العيون قبل أن يضربوا أبنيتهم ، وكان الهدهد يرى الماء في الأرض كما يرى الماء في الزجاجة ، فطلبه يومئذ فلم يجده .

[ ص: 164 ] وقال بعضهم : إنما طلبه لأن الطير كانت تظلهم من الشمس ، فأخل الهدهد بمكانه ، فطلعت الشمس عليهم من الخلل .

قوله تعالى: أم كان قال الزجاج : معناه : بل كان .

قوله تعالى: لأعذبنه عذابا شديدا فيه ستة أقوال .

أحدها : نتف ريشه ، قاله ابن عباس ، والجمهور . والثاني : نتفه وتشميسه ، قاله عبد الله بن شداد . والثالث : شد رجله وتشميسه ، قاله الضحاك . والرابع : أن يطليه بالقطران ويشمسه ، قاله مقاتل بن حيان . والخامس : أن يودعه القفص والسادس : أن يفرق بينه وبين إلفه ، حكاهما الثعلبي .

قوله تعالى: أو ليأتيني وقرأ ابن كثير : " ليأتينني " بنونين ، وكذلك هي في مصاحفهم . فأما السلطان ، فهو الحجة ، وقيل : العذر .

وجاء في التفسير أن سليمان لما نزل في بعض مسيره ، قال الهدهد : إنه قد اشتغل بالنزول فأرتفع أنا إلى السماء فانظر إلى طول الدنيا وعرضها ، فارتفع فرأى بستانا لبلقيس ، فمال إلى الخضرة فوقع فيه ، فإذا هو بهدهد قد لقيه ، فقال : من أين أقبلت؟ قال : من الشام مع صاحبي سليمان ، فمن أين أنت؟ قال : من هذه البلاد ، وملكها امرأة يقال لها : بلقيس ، فهل أنت منطلق معي حتى ترى ملكها؟ قال : أخاف أن يتفقدني سليمان وقت الصلاة إذا احتاج إلى الماء ، قال : إن صاحبك يسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة ، فانطلق معه ، فنظر إلى بلقيس وملكها ، فمكث غير بعيد قرأ الجمهور بضم الكاف ، وقرأ عاصم بفتحها ، وقرأ ابن مسعود : " فتمكث " بزيادة تاء ; والمعنى : لم يلبث إلا يسيرا حتى جاء ، فقال سليمان : ما الذي أبطأ بك؟ فقال أحطت بما لم تحط به أي : علمت شيئا من جميع جهاته مما لم تعلم [به] وجئتك من سبإ قرأ ابن كثير، [ ص: 165 ] وأبو عمرو : " سبأ " نصبا غير مصروف ، وقرأ الباقون خفضا منونا . وجاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سبأ رجل من العرب . وقال قتادة : هي أرض باليمن يقال لها : مأرب . وقال أبو الحسن الأخفش : إن شئت صرفت " سبأ " فجعلته اسم أبيهم ، أو اسم الحي ، وإن شئت لم تصرف فجعلته اسم القبيلة ، أو اسم الأرض . قال الزجاج : وقد ذكر قوم من النحويين أنه اسم رجل . وقال آخرون : الاسم إذا لم يدر ما هو لم يصرف ; وكلا القولين خطأ ، لأن الأسماء حقها الصرف ، وإذا لم يعلم هل الاسم للمذكر أم للمؤنث ، فحقه الصرف حتى يعلم أنه لا ينصرف ، لأن أصل الأسماء الصرف . وقول الذين قالوا : هو اسم رجل ، غلط ، لأن سبأ هي مدينة تعرف بمأرب من اليمن ، بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام ، فمن لم يصرفه جعله اسم مدينة ، ومن صرفه فلأنه اسم البلد ، فيكون مذكرا سمي بمذكر .

قوله تعالى: بنبإ يقين أي : بخبر صادق ، إني وجدت امرأة تملكهم يعني بلقيس وأوتيت من كل شيء قال الزجاج : معناه : من كل شيء يعطاه الملوك ويؤتاه الناس . والعرش : سرير الملك . قال قتادة : كان عرشها من ذهب ، قوائمه من جوهر مكلل باللؤلؤ ، وكان أحد أبويها من الجن ، وكان مؤخر أحد قدميها مثل حافر الدابة . وقال مجاهد : كان قدماها كحافر الحمار .

وقال ابن السائب : لم يكن بقدميها شيء ، إنما وقع الجن فيها عند سليمان بهذا القول ، فلما جعل لها الصرح بان له كذبهم . قال مقاتل : كان ارتفاع عرشها [ ص: 166 ] ثمانين ذراعا في عرض ثمانين ، وكانت أمها من الجن . قال ابن جرير وإنما صار هذا الخبر عذرا للهدهد ، لأن سليمان كان لا يرى لأحد في الأرض مملكة سواه ، وكان مع ذلك يحب الجهاد ، فلما دله الهدهد على مملكة لغيره ، وعلى قوم كفرة يجاهدهم ، صار ذلك عذرا له .

قوله تعالى: ألا يسجدوا قرأ الأكثرون : " ألا " بالتشديد . قال الزجاج : والمعنى : وزين لهم الشيطان ألا يسجدوا ، أي : فصدهم لئلا يسجدوا . وقرأ ابن عباس ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، والحسن ، والزهري ، وقتادة ، وأبو العالية ، وحميد الأعرج ، والأعمش ، وابن أبي عبلة ، والكسائي : " ألا يسجدوا " مخففة ، على معنى : ألا يا هؤلاء اسجدوا ، فيكون في الكلام إضمار " هؤلاء " ويكتفى منها ب " يا " ، ويكون الوقف " ألا يا " والابتداء " اسجدوا " ; قال الفراء : فعلى هذه القراءة هي سجدة ، وعلى قراءة من شدد لا ينبغي لها أن تكون سجدة .

وقال أبو عبيدة : هذا أمر من الله مستأنف ، يعني : ألا يا أيها الناس اسجدوا . وقرأ ابن مسعود ، وأبي : " هلا يسجدوا " بهاء .

قوله تعالى: الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض قال ابن قتيبة : أي : المستتر فيهما ، وهو من خبأت الشيء : إذا أخفيته ، ويقال : خبء السموات : المطر ، وخبء الأرض : النبات . وقال الزجاج : كل ما خبأته فهو خبء ، فالخبء : كل ما غاب ; فالمعنى : يعلم الغيب في السموات والأرض . 50 وقال ابن جرير : " في " بمعنى " من " ، فتقديره : يخرج الخبء من السموات .

قوله تعالى: ويعلم ما تخفون وما تعلنون قرأ حفص [عن] عاصم ، والكسائي بالتاء فيهما . وقرأ الباقون بالياء . قال ابن زيد : من قوله : أحطت إلى قوله : العظيم كلام الهدهد . وقرأ الضحاك ، وابن محيصن : " العظيم " برفع الميم .

التالي السابق


الخدمات العلمية