صفحة جزء
وإن من شيعته لإبراهيم . إذ جاء ربه بقلب سليم . إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون . أإفكا آلهة دون الله تريدون . فما ظنكم برب العالمين . فنظر نظرة في النجوم . فقال إني سقيم . فتولوا عنه مدبرين . فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون . ما لكم لا تنطقون . فراغ عليهم ضربا باليمين . فأقبلوا إليه يزفون . قال أتعبدون ما تنحتون . والله خلقكم وما تعملون . قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم . فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين . وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين . رب هب لي من الصالحين . فبشرناه بغلام حليم .

قوله تعالى: وإن من شيعته لإبراهيم أي: من أهل دينه وملته . والهاء في "شيعته" عائدة على نوح في قول الأكثرين; وقال ابن السائب: تعود إلى محمد صلى الله عليه وسلم، واختاره الفراء .

[ ص: 67 ] فإن قيل: كيف يكون من شيعته، وهو قبله؟

فالجواب: أنه مثل قوله: حملنا ذريتهم [يس: 41]، فجعلها ذريتهم وقد سبقتهم، وقد شرحنا هذا فيما مضى [يس: 41] .

قوله تعالى: إذ جاء ربه أي: صدق الله وآمن به بقلب سليم من الشرك وكل دنس، وفيه أقوال ذكرناها في [الشعراء: 89] .

قوله تعالى: ماذا تعبدون؟ هذا استفهام توبيخ، كأنه وبخهم على عبادة غير الله . أإفكا أي: أتأفكون إفكا وتعبدون آلهة سوى الله؟! فما ظنكم برب العالمين إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره؟! كأنه قال: فما ظنكم أن يصنع بكم؟

فنظر نظرة في النجوم فيه قولان .

أحدهما: [أنه] نظر في علم النجوم، وكان القوم يتعاطون علم النجوم، فعاملهم من حيث هم، وأراهم أني أعلم من ذلك ما تعلمون، لئلا ينكروا عليه ذلك . قال ابن المسيب: رأى نجما طالعا، فقال: إني مريض غدا .

والثاني: أنه نظر إلى النجوم، لا في علمها .

فإن قيل: فما كان مقصوده؟

فالجواب: أنه كان لهم عيد ، فأراد التخلف عنهم ليكيد أصناهم، فاعتل بهذا القول .

قوله تعالى: إني سقيم من معاريض الكلام . ثم فيه ثلاثة أقوال .

أحدها: أن معناه: سأسقم، قاله الضحاك . قال ابن الأنباري: أعلمه الله عز وجل أنه يمتحنه بالسقم إذا طلع نجم يعرفه، فلما رأى النجم، علم أنه سيسقم .

[ ص: 68 ] والثاني: أني سقيم القلب عليكم إذ تكهنتم بنجوم لا تضر ولا تنفع، ذكره ابن الأنباري .

والثالث: أنه سقم لعلة عرضت له، حكاه الماوردي . وذكر السدي أنه خرج معهم إلى يوم عيدهم، فلما كان ببعض الطريق، ألقى نفسه وقال: إني سقيم أشتكي رجلي، فتولوا عنه مدبرين فراغ إلى آلهتهم أي: مال إليها -وكانوا قد جعلوا بين يديها طعاما لتبارك فيه على زعمهم- فقال إبراهيم استهزاء بها ألا تأكلون؟ .

وقوله: ضربا باليمين في اليمين ثلاثة أقوال .

أحدها: أنها اليد اليمنى، قاله الضحاك .

[ ص: 69 ] والثاني: بالقوة والقدرة، قاله السدي، والفراء .

والثالث: باليمين التي سبقت منه، وهي قوله: "وتالله لأكيدن أصنامكم " [الأنبياء: 57]، حكاه الماوردي .

قال الزجاج : "ضربا" مصدر; والمعنى: فمال على الأصنام يضربها ضربا باليمين; وإنما قال: "عليهم"، وهي أصنام، لأنهم جعلوها بمنزلة ما يميز .

فأقبلوا إليه يزفون قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو ، وابن عامر، والكسائي: "يزفون" بفتح الياء وكسر الزاي وتشديد الفاء . وقرأ حمزة، والمفضل عن عاصم: "يزفون" برفع الياء وكسر الزاي وتشديد الفاء . وقرأ ابن السميفع، وأبو المتوكل، والضحاك : "يزفون" بفتح الياء وكسر الزاي وتخفيف الفاء . وقرأ ابن أبي عبلة، وأبو نهيك: "يزفون" بفتح الياء وسكون الزاي وتخفيف الفاء . قال الزجاج : أعرب القراءات فتح الياء وتشديد الفاء، وأصله من زفيف النعام، وهو ابتداء عدو النعام، يقال: زف النعام يزف; وأما ضم الياء، فمعناه: يصيرون إلى الزفيف، وأنشدوا:


[تمنى حصين أن يسود جذاعه] فأضحى حصين قد أذل وأقهرا



أي: صار إلى القهر . وأما كسر الزاي مع تخفيف الفاء، فهو من: وزف يزف، بمعنى أسرع يسرع، ولم يعرفه الكسائي ولا الفراء، وعرفه غيرهما .

[ ص: 70 ] قال المفسرون: بلغهم ما صنع إبراهيم، فأسرعوا، فلما انتهوا إليه، قال لهم محتجا عليهم: أتعبدون ما تنحتون بأيديكم والله خلقكم وما تعملون؟! ، قال ابن جرير: في "ما" وجهان .

أحدهما: أن تكون بمعنى المصدر، فيكون المعنى: والله خلقكم و[عملكم .

والثاني: أن تكون بمعنى "الذي"، فيكون المعنى: والله خلقكم] وخلق الذي تعملونه بأيديكم من الأصنام; وفي هذه الآية دليل على أن أفعال العباد مخلوقة [لله] .

فلما لزمتهم الحجة قالوا ابنوا له بنيانا وقد شرحنا قصته في سورة [الأنبياء: 52 -74]، وبينا معنى الجحيم في [البقرة: 119]، والكيد الذي أرادوا به: إحراقه .

ومعنى قوله: فجعلناهم الأسفلين أن إبراهيم علاهم بالحجة حيث سلمه الله من كيدهم وحل الهلاك بهم .

وقال يعني إبراهيم إني ذاهب إلى ربي في هذا الذهاب قولان .

أحدهما: أنه ذاهب حقيقة، وفي وقت قوله هذا قولان . أحدهما: أنه حين أراد هجرة قومه; فالمعنى: إني ذاهب إلى حيث أمرني ربي عز وجل سيهدين إلى حيث أمرني، وهو الشام، قاله الأكثرون . والثاني: حين ألقي في النار، قاله سليمان بن صرد; فعلى هذا، في المعنى قولان . أحدهما: ذاهب إلى الله بالموت، [ ص: 71 ] سيهدين إلى الجنة . والثاني: [ذاهب] إلى ما قضى [به] ربي، سيهدين إلى الخلاص من النار .

والقول الثاني: إني ذاهب إلى ربي بقلبي وعملي ونيتي، قاله قتادة .

فلما قدم الأرض المقدسة، سأل ربه الولد فقال: رب هب لي من الصالحين أي: ولدا صالحا من الصالحين، فاجتزأ بما ذكر عما ترك، ومثله: وكانوا فيه من الزاهدين [يوسف: 20]، فاستجاب له، وهو قوله: فبشرناه بغلام حليم وفيه قولان . أحدهما: أنه إسحاق . والثاني: أنه إسماعيل . قال الزجاج . هذه البشارة تدل على أنه مبشر بابن ذكر، وأنه يبقى حتى ينتهي في السن ويوصف بالحلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية