صفحة جزء
فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين . فلما أسلما وتله للجبين . وناديناه أن يا إبراهيم . قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين . إن هذا لهو البلاء المبين . وفديناه بذبح عظيم . وتركنا عليه في الآخرين . سلام على إبراهيم . كذلك نجزي المحسنين . إنه من عبادنا المؤمنين . وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين . وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين .

[ ص: 72 ] قوله تعالى: فلما بلغ معه السعي فيه ثلاثة أقوال .

أحدها: أن المراد بالسعي هاهنا: العمل، قاله ابن عباس .

والثاني: أنه المشي، والمعنى: مشى مع أبيه، قاله قتادة . قال ابن قتيبة : بلغ أن ينصرف معه ويعينه . قال ابن السائب: كان ابن ثلاث عشرة سنة .

والثالث: أن المراد بالسعي: العبادة، قاله ابن زيد; فعلى هذا، يكون قد بلغ .

قوله تعالى: إني أرى في المنام أني أذبحك أكثر العلماء على أنه لم ير أنه ذبحه في المنام، وإنما المعنى أنه أمر في المنام بذبحه، ويدل عليه قوله: افعل ما تؤمر . وذهب بعضهم إلى أنه رأى أنه يعالج ذبحه، ولم ير إراقة الدم قال قتادة: ورؤيا الأنبياء حق، إذا رأوا شيئا، فعلوه . وذكر السدي عن أشياخه أنه لما بشر جبريل سارة بالولد، قال إبراهيم: هو إذا لله ذبيح، فلما فرغ من بنيان البيت، أتي في المنام، فقيل له: أوف بنذرك . واختلفوا في الذبيح على قولين .

أحدهما: [أنه] إسحاق، قاله عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، والعباس ابن عبد المطلب، وابن مسعود، وأبو موسى الأشعري، وأبو هريرة، وأنس، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه، [ومسروق]، وعبيد بن عمير، والقاسم ابن أبي بزة، ومقاتل بن سليمان، واختاره ابن جرير . وهؤلاء يقولون: كانت هذه القصة بالشام . وقيل: طويت له الأرض حتى حمله إلى المنحر بمنى في ساعة .

والثاني: أنه إسماعيل، قاله ابن عمر، وعبد الله بن سلام، والحسن البصري، وسعيد بن المسيب، والشعبي، ومجاهد، ويوسف بن مهران، وأبو صالح، [ ص: 73 ] ومحمد بن كعب القرظي، والربيع بن أنس، وعبد الرحمن بن سابط . واختلفت الرواية عن ابن عباس، فروى عنه عكرمة أنه إسحاق، وروى عنه عطاء، ومجاهد، والشعبي، وأبو الجوزاء، ويوسف بن مهران أنه إسماعيل، وروى عنه سعيد بن جبير كالقولين . وعن سعيد بن جبير، وعكرمة، والزهري، وقتادة، والسدي روايتان . وكذلك عن أحمد رضي الله عنه روايتان . ولكل قوم حجة ليس هذا موضعها، وأصحابنا ينصرون القول الأول .

الإشارة إلى قصة الذبح

ذكر أهل العلم بالسير والتفسير أن إبراهيم لما أراد ذبح ولده، قال له: انطلق فنقرب قربانا إلى الله عز وجل، فأخذ سكينا وحبلا، ثم انطلق، حتى إذا ذهبا بين الجبال، قال له الغلام: يا أبت أين قربانك؟ قال: يا بني إني رأيت في المنام أني أذبحك، فقال له: اشدد رباطي حتى لا أضطرب، واكفف عني ثيابك حتى لا ينتضح عليك من دمي فتراه أمي فتحزن، وأسرع مر السكين على حلقي ليكون أهون للموت علي، فإذا أتيت أمي فاقرأ عليها السلام مني; فأقبل عليه إبراهيم يقبله ويبكي ويقول: نعم العون أنت يا بني [ ص: 74 ] [ ص: 75 ] على أمر الله عز وجل، ثم إنه أمر السكين على حلقه فلم يحك شيئا . وقال مجاهد: لما أمرها على حلقه انقلبت، فقال: مالك؟ انقلبت، قال: اطعن بها طعنا . وقال السدي: ضرب الله على حلقه صفيحة من نحاس; وهذا لا يحتاج إليه، بل منعها بالقدرة أبلغ . قالوا: فلما طعن بها، نبت، وعلم الله منهما الصدق في التسليم، فنودي: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، هذا فداء ابنك; فنظر إبراهيم، فإذا جبريل معه كبش أملح .

قوله تعالى: فانظر ماذا ترى لم يقل له ذلك على وجه المؤامرة في أمر الله عز وجل، ولكن أراد أن ينظر ما عنده من الرأي . وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: "ماذا تري" بضم التاء وكسر الراء; وفيها قولان . أحدهما: ماذا تريني من صبرك أو جزعك، قاله الفراء . والثاني: ماذا تبين، قاله الزجاج . وقال غيره: ماذا تشير .

قوله تعالى: افعل ما تؤمر قال ابن عباس: افعل ما أوحي إليك من ذبحي ستجدني إن شاء الله من الصابرين على البلاء .

قوله تعالى: فلما أسلما أي: استسلما لأمر الله عز وجل فأطاعا ورضيا . وقرأ علي، وابن مسعود، وابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، والأعمش، وابن أبي عبلة: "فلما سلما" بتشديد اللام من غير همز قبل السين; والمعنى: سلما لأمر الله عز وجل .

وفي جواب قوله: "فلما أسلما" قولان .

أحدهما: أن جوابه: "وناديناه"، والواو زائدة، قاله الفراء .

والثاني: أن الجواب محذوف لأن في الكلام دليلا عليه; والمعنى: فلما فعل ذلك، سعد وأجزل ثوابه، قاله الزجاج .

[ ص: 76 ] قوله تعالى: وتله للجبين قال ابن قتيبة : أي: صرعه على جبينه فصار أحد جبينيه على الأرض، وهما جبينان والجبهة بينهما، وهي ما أصاب الأرض في السجود، والناس لا يكادون يفرقون بين الجبين والجبهة، فالجبهة مسجد الرجل الذي يصيبه ندب السجود، والجبينان يكتنفانها، من كل جانب جبين .

قوله تعالى: وناديناه قال المفسرون: نودي من الجبل: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا وفيه قولان .

أحدهما: قد عملت ما أمرت، وذلك أنه قصد الذبح بما أمكنه، وطاوعه الابن بالتمكين من الذبح، إلا أن الله عز وجل صرف ذلك كما شاء، فصار كأنه قد ذبح وإن لم يتحقق الذبح .

والثاني: أنه رأى في المنام معالجة الذبح، ولم ير إراقة الدم، فلما فعل في اليقظة ما رأى في المنام، قيل له: "قد صدقت الرؤيا" .

وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وأبو عمران، والجحدري : "قد صدقت الرؤيا" بتخفيف الدال، وهاهنا تم الكلام . ثم قال تعالى: إنا كذلك أي: كما ذكرنا من العفو من ذبح ولده نجزي المحسنين .

[ ص: 77 ] إن هذا لهو البلاء المبين في ذلك قولان . أحدهما: النعم البينة، قاله ابن السائب، ومقاتل . والثاني: الاختبار العظيم، قاله ابن زيد، وابن قتيبة . فعلى الأول، يكون قوله هذا إشارة إلى العفو عن الذبح . وعلى الثاني، يكون إشارة إلى امتحانه بذبح ولده .

قوله تعالى: وفديناه يعني: الذبيح بذبح وهو بكسر الذال: اسم ما ذبح، وبفتح الذال: مصدر ذبحت، قاله ابن قتيبة . ومعنى الآية: خلصناه من الذبح بأن جعلنا الذبح فداء له . وفي هذا الذبح ثلاثة أقوال .

أحدها: أنه كان كبشا أقرن قد رعى في الجنة قبل ذلك أربعين عاما، قاله ابن عباس في رواية مجاهد، وقال في رواية سعيد بن جبير: هو الكبش الذي قربه ابن آدم فتقبل منه، كان في الجنة حتى فدي به .

والثاني: أن إبراهيم فدى ابنه بكبشين أبيضين أعينين أقرنين، رواه أبو الطفيل عن ابن عباس .

والثالث: [أنه] ما فدي إلا بتيس من الأورى، أهبط عليه من ثبير، قاله الحسن .

وفي معنى عظيم أربعة أقوال .

أحدها: لأنه كان قد رعى في الجنة، قاله ابن عباس، وابن جبير .

[ ص: 78 ] والثاني: لأنه ذبح على دين إبراهيم وسنته، قاله الحسن .

والثالث: لأنه متقبل، قاله مجاهد . وقال أبو سليمان الدمشقي: لما قربه ابن آدم، رفع حيا، فرعى في الجنة، ثم جعل فداء الذبيح، فتقبل مرتين .

والرابع: لأنه عظيم الشخص والبركة، ذكره الماوردي .

قوله تعالى: وتركنا عليه قد فسرناه في هذه السورة [الصافات: 78] .

قوله تعالى: وبشرناه بإسحاق من قال: إن إسحاق الذبيح، قال: بشر إبراهيم بنبوة إسحاق، وأثيب إسحاق بصبره النبوة، وهذا قول ابن عباس في رواية عكرمة، وبه قال قتادة، والسدي . ومن قال: الذبيح إسماعيل، قال: بشر الله إبراهيم بولد يكون نبيا بعد هذه القصة، جزاء لطاعته وصبره، وهذا قول سعيد ابن المسيب .

قوله تعالى: وباركنا عليه وعلى إسحاق يعني بكثرة ذريتهما، وهم الأسباط كلهم ومن ذريتهما محسن أي: مطيع لله وظالم وهو العاصي له وقيل: المحسن: المؤمن، والظالم: الكافر .

التالي السابق


الخدمات العلمية