صفحة جزء
[ ص: 201 ] سورة الحشر

وهي مدنية كلها بإجماعهم

وذكر المفسرون أن جميعها أنزلت في بني النضير . وكان ابن عباس يسمي هذه السورة "سورة بني النضير" وهذه الإشارة إلى قصتهم .

ذكر أهل العلم بالتفسير والسير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مسجد قباء، ومعه نفر من أصحابه، فصلى فيه، ثم أتى بني النضير، فكلمهم أن يعينوه في دية رجلين كان قد آمنهما، فقتلهما عمرو بن أمية الضمري وهو لا يعلم، فقالوا: نفعل، وهموا بالغدر به، وقال عمرو بن جحاش: أنا أظهر على البيت، فأطرح عليه صخرة، فقال سلام بن مشكم: لا تفعلوا، والله ليخبرن بما هممتم به، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فنهض سريعا، فتوجه إلى المدينة، فلحقه أصحابه، فقالوا: قمت ولم نشعر؟! فقال: همت يهود بالغدر، فأخبرني الله بذلك، فقمت، وبعث إليهم رسول الله محمد بن مسلمة: أن اخرجوا من بلدتي، [ ص: 202 ] فلا تساكنوني، وقد هممتم بما هممتم به، وقد أجلتكم عشرا . فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه، فمكثوا أياما يتجهزون، فأرسل إليهم ابن أبي: لا تخرجوا، فإن معي ألفين من قومي وغيرهم، وتمدكم قريظة، وحلفاؤكم من غطفان، وطمع حيي فيما قال ابن أبي، فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا نخرج، فاصنع ما بدا لك، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكبر المسلمون لتكبيره، وقال: حاربت يهود، ثم سار إليهم في أصحابه، فلما رأوه قاموا، على حصونهم معهم النبل والحجارة، فاعتزلتهم قريظة، وخذلهم ابن أبي، وحلفاؤهم من غطفان، وكان رئيسهم كعب بن الأشرف قد خرج إلى مكة فعاقد المشركين على التظاهر على رسول الله، فأخبر الله رسوله بذلك، فبعث محمد بن مسلمة فاغتره فقتله، وحاصرهم رسول الله، وقطع نخلهم، فقالوا: نحن نخرج عن بلادك، فأجلاهم عن المدينة، فمضى بعضهم إلى الشام، وبعضهم إلى خيبر، وقبض سلاحهم وأموالهم، فوجد خمسين درعا، وخمسين بيضة، وثلاثمائة وأربعين سيفا .

فأما التفسير فقد ذكرنا فاتحة هذه السورة في [الحديد: 1] [ ص: 203 ] بسم الله الرحمن الرحيم

سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين [ ص: 204 ] قوله تعالى: هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب يعني: يهود بني النضير من ديارهم أي: من منازلهم لأول الحشر فيه أربعة أقوال .

أحدها: أنهم أول من حشر وأخرج من داره، قاله ابن عباس . وقال ابن السائب: هم أول من نفي من أهل الكتاب .

والثاني: أن هذا كان أول حشرهم، والحشر الثاني: إلى أرض المحشر يوم القيامة، قاله الحسن . قال عكرمة: من شك أن المحشر إلى الشام فليقرأ هذه الآية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم يومئذ: اخرجوا، فقالوا: إلى أين؟ قال: إلى أرض المحشر .

والثالث: أن هذا كان أول حشرهم . والحشر الثاني: نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، قاله قتادة .

والرابع: أن هذا كان أول حشرهم من المدينة، والحشر الثاني: من خيبر، [ ص: 205 ] وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات، وأريحا من أرض الشام في أيام عمر بن الخطاب، قاله مرة الهمداني .

قوله تعالى: ما ظننتم يخاطب المؤمنين أن يخرجوا من ديارهم لعزهم، ومنعتهم، وحصونهم وظنوا يعني: بني النضير أن حصونهم تمنعهم من سلطان الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وذلك أنه أمر نبيه بقتالهم وإجلائهم، ولم يكونوا يظنون أن ذلك يكون، ولا يحسبونه وقذف في قلوبهم الرعب لخوفهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: لقتل سيدهم كعب بن الأشرف يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين قرأ أبو عمرو "يخربون" بالتشديد . وقرأ الباقون"يخربون" . وهل بينهما فرق، أم لا؟ فيه قولان .

أحدهما: أن المشددة معناها: النقض والهدم . والمخففة معناها: يخرجون منها ويتركونها خرابا معطلة، حكاه ابن جرير . روي عن أبي عمرو أنه قال: إنما اخترت التشديد، لأن بني النضير نقضوا منازلهم، ولم يرتحلوا عنها وهي معمورة .

والثاني: أن القراءتين بمعنى واحد . والتخريب والإخراب لغتان بمعنى، حكاه ابن جرير عن أهل اللغة . وللمفسرين فيما فعلوا بمنازلهم أربعة أقوال .

أحدها: أنه كان المسلمون كلما ظهروا على دار من دورهم هدموها ليتسع [ ص: 206 ] لهم مكان القتال، وكانوا هم ينقبون دورهم، فيخرجون إلى ما يليها، قاله ابن عباس .

والثاني: أنه كان المسلمون كلما هدموا شيئا من حصونهم نقضوا ما يبنون به الذي خربه المسلمون، قاله الضحاك .

والثالث: أنهم كانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم، أو العمود، أو الباب، فيستحسنونه، فيهدمون البيوت، وينزعون ذلك منها، ويحملونه معهم، ويخرب المؤمنون باقيها، قاله الزهري .

والرابع: أنهم كانوا يخربونها لئلا يسكنها المؤمنون، حسدا منهم، وبغيا، قاله ابن زيد .

قوله تعالى: فاعتبروا يا أولي الأبصار الاعتبار: النظر في الأمور، ليعرف بها شيء آخر من جنسها، و " الأبصار " العقول . والمعنى: تدبروا ما نزل بهمولولا أن كتب الله أي: قضى عليهم الجلاء وهو خروجهم من أوطانهم . وذكر الماوردي بين الإخراج والجلاء فرقين .

أحدهما: أن الجلاء: ما كان مع الأهل والولد، والإخراج: قد يكون مع بقاء الأهل والولد .

والثاني: أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة . والإخراج: قد يكون لواحد ولجماعة . والمعنى: لولا أن الله قضى عليهم بالخروج لعذبهم في الدنيا بالقتل والسبي، كما فعل بقريظة ولهم في الآخرة مع ما حل بهم في الدنيا عذاب النار، ذلك الذي أصابهم بأنهم شاقوا الله وقد سبق بيان الآية [الأنفال: 13] و[محمد: 32] . قال القاضي أبو يعلى: فقد دلت هذه الآية على جواز مصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم من غير سبي ولا استرقاق، [ ص: 207 ] ولا جزية، ولا دخول في ذمة، وهذا حكم منسوخ إذا كان في المسلمين قوة على قتالهم، لأن الله تعالى أمر بقتال الكفار حتى يسلموا، أو يؤدوا الجزية . وإنما يجوز هذا الحكم إذا عجز المسلمون عن مقاومتهم فلم يقدروا على إدخالهم في الإسلام أو الذمة، فيجوز له حينئذ مصالحتهم على الجلاء من بلادهم . وفي هذه القصة دلالة على جواز مصالحتهم على مجهول من المال، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم على أرضهم، وعلى الحلقة، وترك لهم ما أقلت الإبل، وذلك مجهول .

قوله تعالى: ما قطعتم من لينة سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير، وقطع، فنزلت هذه الآية، أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر . وذكر المفسرون أنه لما نزلت ببني النضير تحصنوا في حصونهم، فأمر بقطع نخيلهم، وإحراقها، فجزعوا، وقالوا: يا محمد زعمت أنك تريد الصلاح، أفمن الصلاح عقر الشجر، وقطع النخل؟ وهل وجدت فيما أنزل عليك الفساد في الأرض؟ فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجد المسلمون في أنفسهم من قولهم . واختلف المسلمون، فقال بعضهم: لا تقطعوا، فإنه مما أفاء الله علينا . وقال بعضهم: بل نغيظهم بقطعه، [ ص: 208 ] والثاني: أنه النخل والشجر، رواه عطاء عن ابن عباس .

والثالث: أنه ألوان النخل كلها إلا العجوة، والبرنية، قاله الزهري، وأبو عبيدة، وابن قتيبة . وقال الزجاج: أهل المدينة يسمون جميع النخيل: الألوان، ما خلا البرني، والعجوة . وأصل "لينة" لونة، فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها .

والرابع: أنها النخل كله، قاله مجاهد وعطية، وابن زيد . قال ابن جرير: معنى الآية: ما قطعتم من ألوان النخيل .

والخامس: أنها كرام النخل، قاله سفيان . والسادس: أنها ضرب من النخل يقال لتمرها: اللون، وهي شديد الصفرة، ترى نواه من خارج، وكان أعجب ثمرهم إليهم، قاله مقاتل . وفي عدد ما قطع المسلمون ثلاثة أقوال .

أحدها: أنهم قطعوا وأحرقوا ست نخلات، قاله الضحاك . والثاني: أحرقوا نخلة وقطعوا نخلة قاله ابن إسحاق . والثالث: قطعوا أربع نخلات، قاله مقاتل .

قوله تعالى: فبإذن الله قال يزيد بن رومان ومقاتل: بأمر الله .

قوله تعالى: وليخزي الفاسقين يعني اليهود . وخزيهم: أن يريهم أموالهم يتحكم فيها المؤمنون كيف أحبوا . والمعنى: وليخزي الفاسقين، أذن في ذلك، ودل على المحذوف قوله: فبإذن الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية