صفحة جزء
[ ص: 387 ] سورة المزمل

وهي مكية كلها بإجماعهم

بسم الله الرحمن الرحيم

إلا أنه قد روي عن ابن عباس أنه قال: سوى آيتين منها، قوله تعالى: واصبر على ما يقولون والتي بعدها [المزمل: 11،10] . وقال ابن يسار، ومقاتل: فيها آية مدنية، وهي قوله تعالى: إن ربك يعلم أنك تقوم [المزمل: 20] .

يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا إن لك في النهار سبحا طويلا واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا السماء منفطر به كان وعده مفعولا [ ص: 388 ] قوله تعالى: يا أيها المزمل وقرأ أبي بن كعب ، وأبو العالية، وأبو مجلز، وأبو عمران، والأعمش "المتزمل" بإظهار التاء . وقرأ عكرمة، وابن يعمر: "المزمل" بحذف التاء، وتخفيف الزاي . قال اللغويون: "المزمل" الملتف في ثيابه، وأصله "المتزمل" فأدغمت التاء في الزاي، فثقلت . وكل من التف بثوبه فقد تزمل . قال الزجاج: وإنما أدغمت فيها لقربها منها . قال المفسرون: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتزمل في ثيابه في أول ما جاء جبريل فرقا منه حتى أنس به . وقال السدي: كان قد تزمل للنوم . وقال مقاتل: خرج من البيت وقد لبس ثيابه، فناداه جبريل: يا أيها المزمل . وقيل: أريد به متزمل النبوة . قال عكرمة في معنى هذه الآية: زملت هذا الأمر فقم به . وقيل: إنما لم يخاطب بالنبي والرسول ها هنا، لأنه لم يكن قد بلغ، وإنما كان في بدء الوحي .

قوله تعالى: قم الليل أي: للصلاة . وكان قيام الليل فرضا عليه "إلا قليلا نصفه" هذا بدل من الليل، كما تقول: ضربت زيدا رأسه . فإنما ذكرت زيدا لتوكيد الكلام، لأنه أوكد من قولك: ضربت رأس زيد . والمعنى: قم من الليل النصف إلا قليلا "أو انقص منه قليلا" أي: من النصف "أو زد عليه" أي: على النصف . قال المفسرون: انقص من النصف إلى الثلث، أو زد عليه إلى الثلثين، فجعل له سعة في مدة قيامه، إذ لم تكن محدودة، فكان يقوم ومعه طائفة من المؤمنين، فشق ذلك عليه وعليهم، فكان الرجل لا يدري كم صلى، وكم بقي من الليل، فكان يقوم الليل كله مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب، فنسخ ذلك عنه وعنهم بقوله تعالى: إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل . . . الآية، هذا مذهب جماعة من المفسرين . وقالوا: ليس في القرآن [ ص: 389 ] سورة نسخ آخرها أولها سوى هذه السورة . وذهب قوم إلى أنه نسخ قيام الليل في حقه بقوله تعالى: ومن الليل فتهجد به نافلة لك [الإسراء: 79]، ونسخ في حق المؤمنين بالصلوات الخمس . وقيل: نسخ عن الأمة، وبقي عليه فرضه أبدا . وقيل: إنما كان مفروضا عليه دونهم . وفي مدة فرضه قولان .

أحدهما: سنة، قال ابن عباس: كان بين أول "المزمل" وآخرها سنة .

والثاني: ستة عشر شهرا، حكاه الماوردي .

قوله تعالى: ورتل القرآن قد ذكرنا الترتيل في [الفرقان: 32] .

قوله تعالى: إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا وهو القرآن . وفي معنى ثقله ستة أقوال .

أحدها: أنه كان يثقل عليه إذا أوحي إليه، وهذا قول عائشة . قالت: ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، يعني يتخلص عنه، [ ص: 390 ] وإن جبينه ليتفصد عرقا .

والثاني: أن العمل به ثقيل في فروضه وأحكامه، قاله الحسن، وقتادة .

والثالث: أنه يثقل في الميزان يوم القيامة، قاله ابن زيد .

والرابع: أنه المهيب، كما يقال للرجل العاقل: هو رزين راجح، قاله عبد العزيز بن يحيى .

والخامس: أنه ليس بالخفيف ولا السفساف، لأنه كلام الرب عز وجل، قاله الفراء .

والسادس: أنه قول له وزن في صحته وبيانه ونفعه، كما تقول: هذا كلام رصين، وهذا قول وزن: إذا استجدته، ذكره الزجاج .

قوله تعالى: إن ناشئة الليل قال ابن مسعود، وابن عباس: هي قيام الليل بلسان الحبشة . وهل هي في وقت مخصوص من الليل، أم في جميعه؟ فيه قولان .

أحدهما: أنها في جميع الليل . وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه قال: الليل كله ناشئة . وإلى هذا ذهب اللغويون . قال ابن قتيبة: ناشئة الليل: [ ص: 391 ] ساعاته الناشئة، من نشأت: إذا ابتدأت . وقال الزجاج: ناشئة الليل: ساعات الليل، كل ما نشأ منه، أي: كل ما حدث . وقال أبو علي الفارسي: كأن المعنى: إن صلاة ناشئة، أو عمل ناشئة الليل .

والثاني: أنها في وقت مخصوص من الليل . ثم فيه خمسة أقوال .

أحدها: أنها ما بين المغرب والعشاء، قاله أنس بن مالك .

والثاني: أنها القيام بعد النوم، وهذا قول عائشة ، وابن الأعرابي . وقد نص عليه أحمد في رواية المروذي .

والثالث: أنها ما بعد العشاء، قاله الحسن، ومجاهد، وقتادة، وأبو مجلز .

والرابع: أنها بدء الليل، قاله عطاء، وعكرمة .

والخامس: أنها القيام من آخر الليل، قاله يمان، وابن كيسان .

قوله تعالى: هي أشد وطئا قرأ ابن عامر، وأبو عمرو، "وطاء" بكسر الواو مع المد، وهو مصدر واطأت فلانا على كذا مواطأة، ووطاء، وأراد أن القراءة في الليل يتواطأ فيها قلب المصلي ولسانه وسمعه على التفهم للقرآن والإحكام لتأويله . ومنه قوله تعالى: ليواطئوا عدة ما حرم الله [التوبة: 37] . وقرأ الباقون "وطأ" بفتح الواو مع القصر . والمعنى: إنه أثقل على المصلي من ساعات النهار، من قول العرب: اشتدت على القوم وطأة السلطان: إذا ثقل عليهم ما يلزمهم . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم اشدد وطأتك على مضر" . ذكر معنى القراءتين ابن قتيبة: وقرأ ابن محيصن "أشد وطاء" بفتح الواو، والطاء، وبالمد .

[ ص: 392 ] قوله تعالى: وأقوم قيلا أي: أخلص للقول وأسمع له، لأن الليل تهدأ فيه الأصوات فتخلص القراءة، ويفرغ القلب لفهم التلاوة، فلا يكون دون سمعه وتفهمه حائل .

قوله تعالى: إن لك في النهار سبحا طويلا أي: فراغا لنومك وراحتك، فاجعل ناشئة الليل لعبادتك، قاله ابن عباس، وعطاء . وقرأ علي، وابن مسعود، وأبو عمران، وابن أبي عبلة "سبخا" بالخاء المعجمة . قال الزجاج: ومعناها في اللغة صحيح . يقال: قد سبخت القطن بمعنى نفشته . ومعنى، نفشته: وسعته، فيكون المعنى: إن لك في النهار توسعا طويلا .

قوله تعالى: واذكر اسم ربك أي: بالنهار أيضا "وتبتل إليه تبتيلا" قال مجاهد . أخلص له إخلاصا . وقال ابن قتيبة: انقطع إليه، من قولك: بتلت الشيء: إذا قطعته . وقال الزجاج: انقطع إليه في العبادة . ومنه قيل لمريم: البتول، لأنها انقطعت إلى الله تعالى في العبادة . وكذلك صدقة بتلة: منقطعة من مال المصدق . والأصل في مصدر تبتل تبتلا . وإنما قوله تعالى: تبتيلا محمول على معنى: تبتل "رب المشرق" قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم "رب" بالرفع . وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم بالكسر . وما بعد هذا قد سبق [الشعراء: 28] إلى قوله تعالى: واصبر على ما يقولون من التكذيب لك والأذى "واهجرهم هجرا جميلا" لا جزع فيه . وهذه الآية عند المفسرين منسوخة بآية السيف "وذرني والمكذبين" أي: لا تهتم بهم، فأنا أكفيكهم "أولي النعمة" يعني: التنعم . وفيمن عني بهذا ثلاثة أقوال .

أحدها: أنهم المطعمون ببدر، قاله مقاتل بن حيان . [ ص: 393 ] والثاني: أنهم بنو المغيرة بن عبد الله، قاله مقاتل بن سليمان .

والثالث: أنهم المستهزئون، وهم صناديد قريش، حكاه الثعلبي .

قوله تعالى: ومهلهم قليلا قالت عائشة: فلم يكن إلا اليسير حتى كانت وقعة بدر . وذهب بعض المفسرين إلى أن هذه الآية منسوخة بآية السيف، وليس بصحيح .

قوله تعالى: إن لدينا أنكالا وهي القيود، واحدها: نكل . وقد شرحنا معنى "الجحيم" في [البقرة: 119] "وطعاما ذا غصة" وهو الذي لا يسوغ في الحلق . وفيه للمفسرين أربعة أقوال .

أحدها: أنه شوك يأخذ الحلق فلا يدخل ولا يخرج، قاله ابن عباس، وعكرمة . والثاني: الزقوم، قاله مقاتل . والثالث: الضريع، قاله الزجاج .

والرابع: الزقوم والغسلين والضريع، حكاه الثعلبي .

قوله تعالى: يوم ترجف الأرض قال الزجاج: هو منصوب بقوله تعالى: إن لدينا أنكالا والمعنى: ينكل الكافرين ويعذبهم "يوم ترجف الأرض" أي: تزلزل وتحرك أغلظ حركة .

قوله تعالى: وكانت الجبال قال مقاتل: المعنى: وصارت بعد الشدة، والقوة "كثيبا" قال الفراء: "الكثيب": الرمل . و"المهيل": الذي تحرك أسفله، فينهال عليك من أعلاه . والعرب تقول: مهيل ومهيول، ومكيل ومكيول . وقال الزجاج: الكثيب جمعه كثبان، وهي القطع العظام من الرمل . والمهيل: السائل .

قوله تعالى: إنا أرسلنا إليكم يعني أهل مكة "رسولا" يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم [ ص: 394 ] "شاهدا عليكم" بالتبليغ وإيمان من آمن، وكفر من كفر "كما أرسلنا إلى فرعون رسولا" وهو موسى عليه السلام . والوبيل: الشديد . قال ابن قتيبة: هو من قولك: استوبلت المكان: [إذا استوخمته] ويقال: كلأ مستوبل أي: لا يستمرأ . قال الزجاج: الوبيل: الثقيل الغليظ جدا . ومنه قيل للمطر العظيم: وابل . قال مقاتل: والمراد بهذا الأخذ الوبيل: الغرق . وهذا تخويف لكفار مكة أن ينزل بهم العذاب لتكذيبهم، كما نزل بفرعون .

قوله تعالى: فكيف تتقون إن كفرتم يوما أي: عذاب يوم . قال الزجاج: المعنى: بأي شيء تتحصنون من عذاب يوم من هوله يشيب الصغير من غير كبر . وقرأ أبي بن كعب ، وأبو عمران "نجعل الولدان" بالنون .

قوله تعالى: السماء منفطر به قال الفراء: السماء تذكر وتؤنث . وهي ها هنا في وجه التذكير . قال الشاعر:


فلو رفع السماء إليه قوما لحقنا بالسماء مع السحاب



قال الزجاج: وتذكير السماء على ضربين .

أحدهما: على أن معنى السماء معنى السقف .

والثاني: على قولهم: امرأة مرضع على جهة النسب . فالمعنى: السماء ذات انفطار، كما أن المرضع ذات الرضاع . وقال ابن قتيبة: ومعنى الآية: السماء منشق به، أي: فيه، يعني في ذلك اليوم .

[ ص: 395 ] قوله تعالى: كان وعده مفعولا وذلك أنه وعد بالبعث، فهو كائن لا محالة .

التالي السابق


الخدمات العلمية