صفحة جزء
ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام .

قوله تعالى: ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا .

اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على ثلاثة أقوال . أحدها: أنها نزلت في الأخنس بن شريق ، كان لين الكلام ، كافر القلب ، يظهر للنبي الحسن ، ويحلف له أنه يحبه ، ويتبعه على [ ص: 219 ] دينه وهو يضمر غير ذلك ، هذا قول ابن عباس ، والسدي ومقاتل . والثاني: أنها نزلت فيمن نافق فأظهر بلسانه ما ليس في قلبه . وهذا قول الحسن ، وقتادة ، وابن زيد . والثالث: أنها نزلت في سرية الرجيع ، وذلك أن كفار قريش بعثوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة: إنا قد أسلمنا ، فابعث لنا نفرا من أصحابك يعلمونا ديننا ، فبعث صلى الله عليه وسلم; خبيب بن عدي ، ومرثدا الغنوي ، وخالد بن بكير ، وعبد الله بن طارق ، وزيد بن الدثنة ، وأمر عليهم عاصم بن ثابت ، فساروا نحو مكة ، فنزلوا بين مكة والمدينة ومعهم تمر ، فأكلوا منه ، فمرت عجوز فأبصرت النوى ، فرجعت إلى قومها وقالت: قد سلك هذا الطريق أهل يثرب ، فركب سبعون منهم حتى أحاطوا بهم ، فحاربوهم ، فقتلوا مرثدا ، وخالدا ، وابن طارق ، ونثر عاصم كنانته وفيها سبعة أسهم ، فقتل بكل سهم رجلا من عظمائهم ، ثم قال: اللهم إني حميت دينك صدر النهار ، فاحم لحمي آخر النهار ، ثم أحاطوا به فقتلوه ، وأرادوا حز رأسه يبيعوه من سلافة بنت سعد ، وكان قتل بعض أهلها ، فنذرت: لئن قدرت على رأسه لتشربن في قحفه الخمر ، فأرسل الله تعالى رجلا من الدبر - وهي: الزنابير - فحمته ، فلم يقدروا عليه ، فقال دعوه حتى يمسي فتذهب عنه ، فنأخذه ، فجاءت ، سحابة فأمطرت كالعزالي ، فبعث الله الوادي ، فاحتمله فذهب به ، وأسروا خبيبا وزيدا ، فابتاع بنو الحارث بن عامر خبيبا ليقتلوه ، لأنه قتل آباءهم ، فلما خرجوا به ليقتلوه قال: دعوني أصلي ركعتين ، فتركوه فصلى ركعتين ، ثم قال: لولا أن تقولوا: جزع خبيب; لزدت ، وأنشأ يقول:

[ ص: 220 ]

ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي شق كان في الله مصرعي

    وذلك في ذات الإله وإن يشأ
يبارك على أوصال شلو ممزع



فصلبوه حيا ، فقال: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد حولي يبلغ رسولك سلامي ، فجاءه رجل منهم يقال له: أبو سروعة ، ومعه رمح ، فوضعه بين يدي خبيب ، فقال له خبيب: اتق الله ، فما زاده ذلك إلا عتوا . وأما زيد ، فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه ، فجاءه أبو سفيان بن حرب حين قدم ليقتله ، فقال: يا زيد! أنشدك الله ، أتحب أن محمدا مكانك ، وأنك في أهلك؟ فقال: والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي ، ثم قتل . وبلغ النبي الخبر ، فقال: أيكم يحتمل خبيبا عن خشبته وله الجنة؟ فقال الزبير: أنا وصاحبي المقداد ، فخرجا يمشيان بالليل ويمكثان بالنهار ، حتى وافيا المكان ، وإذا حول الخشبة أربعون مشركا نيام نشاوى ، وإذا هو رطب يتثنى لم يتغير فيه شيء بعد أربعين يوما ، فحمله الزبير على فرسه ، وسار فلحقه سبعون منهم ، فقذف الزبير خبيبا فابتلعته الأرض ، وقال الزبير: ما جرأكم علينا يا معشر قريش؟! ثم رفع العمامة عن رأسه وقال: أنا الزبير بن العوام ، وأمي صفية بنت عبد المطلب ، وصاحبي المقداد ، أسدان رابضان يدفعان عن شبلهما ، فإن شئتم ناضلتكم ، وإن شئتم نازلتكم ، وإن شئتم انصرفتم ، فانصرفوا ، وقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل عنده ، فقال: "يا محمد إن الملائكة لتباهي بهذين من أصحابك"

وقال بعض المنافقين في أصحاب خبيب: ويح هؤلاء المقتولين ، لا في بيوتهم قعدوا ، ولا رسالة صاحبهم أدوا ، فأنزل الله تعالى في الزبير والمقداد وخبيب وأصحابه والمنافقين هذه الآية ، وثلاث آيات بعدها .
وهذا الحديث بطوله مروي عن ابن عباس .

[ ص: 221 ] قوله تعالى: (ويشهد الله على ما في قلبه) فيه قولان . أحدهما: أنه يقول: إن الله يشهد أن ما ينطق به لساني هو الذي في قلبي . والثاني: أنه يقول: اللهم اشهد علي بهذا القول . وقرأ ابن مسعود: "ويستشهد الله" بزيادة سين وتاء . وقرأ الحسن ، وطلحة بن مصرف ، وابن محيصن وابن عبلة: "ويشهد" بفتح الياء "الله" بالرفع .

قوله تعالى: (وهو ألد الخصام) الخصام: جمع خصم ، يقال: خصم وخصام وخصوم . قال الزجاج: والألد: الشديد الخصومة ، واشتقاقه من لديدي العنق ، وهما صفحتا العنق ، ومعناه: أن خصمه في أي وجه أخذ من أبواب الخصومة ، غلبه في ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية