صفحة جزء
يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون .

قوله تعالى: يسألونك عن الخمر والميسر في سبب نزولها قولان . أحدهما: أن عمر بن الخطاب ، قال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ، فنزلت هذه الآية . والثاني: أن جماعة من الأنصار جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيهم عمر ، ومعاذ ، فقالوا: أفتنا في الخمر ، فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال ، فنزلت هذه الآية .

وفي تسمية الخمر خمرا ثلاثة أقوال . أحدها: أنها سميت خمرا ، لأنها تخامر العقل ، أي: تخالطه . والثاني: لأنها تخمر العقل ، أي: تستره . والثالث: لأنها تخمر ، أي: تغطي ذكر هذه الأقوال محمد بن القاسم . وقال الزجاج: الخمر في اللغة: ما ستر على العقل ، يقال: دخل فلان في خمار الناس ، أي: في الكثير الذي يستتر فيهم ، وخمار المرأة قناعها ، سمي خمارا لأنه يغطي .

[ ص: 240 ] قال: والخمر هاهنا هي المجمع عليها ، وقياس كل ما عمل عملها أن يقال له: خمر ، وأن يكون في التحريم بمنزلتها ، لأن العلماء أجمعوا على أن القمار كله حرام ، وإنما ذكر الميسر من بينه ، وجعل كله قياسا على الميسر ، والميسر إنما يكون قمارا في الجزر خاصة . فأما الميسر; فقال ابن عباس ، وابن عمر ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة في آخرين: هو القمار . قال ابن قتيبة: يقال: يسرت: إذا ضربت بالقداح ، ويقال للضارب بالقداح: ياسر وياسرون . ويسر وأيسار .

وكان أصحاب الثروة والأجواد في الشتاء عند شدة الزمان وكلبه ينحرون جزورا ، ويجزئونها أجزاء ، ثم يضربون عليها القداح ، فإذا قمر القامر ، جعل ذلك لذوي الحاجة والمسكنة ، وهو النفع الذي ذكره الله ، وكانوا يتمادحون بأخذ القداح ، ويتسابون بتركها ويعيبون من لا ييسر .

قوله تعالى: (قل فيهما إثم كبير) قرأ الأكثرون "كبير" بالباء ، وقرأ حمزة والكسائي بالثاء .

وفي إثم الخمر ثلاثة أقوال . أحدها: أن شربها ينقص الدين . قاله ابن عباس . والثاني: أنه إذا شرب سكر وآذى الناس ، رواه السدي عن أشياخه . والثالث: أنه وقوع العداوة والبغضاء وتغطية العقل الذي يقع به التمييز ، قاله الزجاج .

وفي إثم الميسر قولان . أحدهما: أنه يشغل عن ذكر الله وعن الصلاة ، ويوقع العداوة ، قاله ابن عباس . والثاني: أنه يدعوا إلى الظلم ومنع الحق ، رواه السدي عن أشياخه وجائز أن يراد جميع ذلك .

[ ص: 241 ] وأما منافع الخمر; فمن وجهين: أحدهما: الربح في بيعها . والثاني: انتفاع الأبدان مع التذاذ النفوس . وأما منافع الميسر: فإصابة الرجل المال من غير تعب .

وفي قوله تعالى: وإثمهما أكبر من نفعهما قولان . أحدهما: أن معناه: وإثمهما بعد التحريم أكبر من نفعهما قبل التحريم ، قاله سعيد بن جبير ، والضحاك ، ومقاتل . والثاني: وإثمهما قبل التحريم أكبر من نفعهما قبل التحريم ، أيضا لأن الإثم الذي يحدث في أسبابها أكبر من نفعهما . وهذا منقول عن ابن جبير أيضا . واختلفوا بماذا كانت الخمرة مباحة؟ على قولين . أحدهما: بقوله تعالى: ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا [ النحل: 67 ] . قاله ابن جبير . والثاني: بالشريعة الاولى ، وأقر المسلمون على ذلك حتى حرمت .

فصل

اختلف العلماء: هل لهذه الآية تأثير في تحريم الخمر أم لا؟ على قولين . أحدهما: أنها تقتضي ذمها دون تحريمها ، رواه السدي عن أشياخه ، وبه قال سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ، ومقاتل . وعلى هذا القول تكون هذه الآية منسوخة .

والقول الثاني: أن لها تأثيرا في التحريم ، وهو أن الله تعالى أخبر أن فيها إثما كبيرا والإثم كله محرم بقوله: والإثم والبغي [ الأعراف: 33 ] . هذا قول جماعة من العلماء ، وحكاه الزجاج ، واختاره القاضي أبو يعلى للعلة التي بيناها ، واحتج لصحته بعض أهل المعاني ، فقال: لما قال الله تعالى: قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ; وقع التساوي بين الأمرين ، فلما قال: وإثمهما أكبر من نفعهما صار الغالب الإثم ، وبقي النفع مستغرقا في جنب الإثم ، فعاد الحكم للغالب المستغرق ، فغلب جانب الخطر .

[ ص: 242 ] فصل

فأما الميسر; فالقول فيه مثل القول في الخمر ، إن قلنا: إن هذه الآية دلت على التحريم ، فالميسر حكمها حرام أيضا ، وإن قلنا: إنها دلت على الكراهة; فأقوم الأقوال أن نقول: إن الآية التي في المائدة نصت على تحريم الميسر .

قوله تعالى: ويسألونك ماذا ينفقون قال ابن عباس: إن الذي سأله عن ذلك عمرو بن الجموح: قال ابن قتيبة: والمراد بالنفقة هاهنا: الصدقة والعطاء .

قوله تعالى: (قل العفو) قرأ أبو عمرو برفع واو "العفو" وقرأ الباقون بنصبها ، قال أبو علي: "ماذا" في موضع نصب ، فجوابه العفو بالنصب ، كما تقول في جواب . ماذا أنفقت؟ أي: أنفقت درهما . هذا وجه نصب العفو . ومن رفع جعل "ذا" بمنزلة الذي ، ولم يجعل "ماذا" اسما واحدا ، فإذا قال قائل: ماذا أنزل ربكم; فكأنه قال: ما الذي أنزل ربكم; فجوابه: قرآن . قال الزجاج: "العفو" في اللغة: الكثرة والفضل ، يقال: قد عفا القوم: إذا كثروا . و"العفو" ما أتى بغير كلفة . وقال ابن قتيبة: العفو: الميسور . يقال: خذ ما عفاك: أي: ما أتاك سهلا بلا إكراه ولا مشقة .

وللمفسرين في المراد بالعفو هاهنا خمسة أقوال .

أحدها: أنه ما يفضل عن حاجة المرء وعياله ، رواه مقسم عن ابن عباس . والثاني: ما تطيب به أنفسهم من قليل وكثير ، رواه عطية عن ابن عباس . والثالث: أنه القصد بين الإسراف والإقتار ، قاله الحسن ، وعطاء ، وسعيد بن جبير . والرابع: أنه الصدقة المفروضة ، قاله مجاهد . والخامس: أنه ما لا يتبين عليهم مقداره ، من قولهم: عفا الأثر إذا خفي ودرس ، حكاه شيخنا عن طائفة من المفسرين .

[ ص: 243 ] فصل

وقد تكلم علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية ، فروى السدي عن أشياخه أنها نسخت بالزكاة ، وأبى نسخها آخرون . وفصل الخطاب في ذلك أنا متى قلنا: إنه فرض عليهم بهذه الآية التصدق بفاضل المال ، أو قلنا: إنه أوجبت عليهم هذه الآية صدقة قبل الزكاة ، فالآية منسوخة بآية الزكاة ، ومتى قلنا: إنها محمولة على الزكاة المفروضة كما قال مجاهد ، أو على الصدقة المندوب إليها ، فهي محكمة .

قوله تعالى: (كذلك يبين الله) قال الزجاج: إنما قال كذلك ، وهو يخاطب جماعة ، لأن الجماعة معناها: القبيل ، كأنه قال: كذلك يا أيها القبيل . وجائز أن تكون الكاف للنبي ، صلى الله عليه وسلم ، كأنه قال: كذلك يا أيها النبي ، لأن الخطاب له مشتمل على خطاب أمته . وقال ابن الأنباري: الكاف في "كذلك" إشارة إلى ما بين من الإنفاق ، فكأنه قال: مثل ذلك الذي بينه لكم في الإنفاق يبين الآيات . ويجوز أن يكون "كذلك" غير إشارة إلى ما قبله ، فيكون معناه: هكذا ، قاله ابن عباس . لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة فتعرفون فضل ما بينهما ، فتعملون للباقي منهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية